القارئ المتأمل لاتجاهات وأشكال الشعر العربي يجد تجاورا مستمرا بينها، وهذا التجاور اللافت للنظر يقلّم على المدى البعيد حدة الخروج والتطور، فيؤثر عليها سلبا، لأن هذه الأشكال تصل إلى صيغة تعاضدية تآزرية، فتمنح الأشكال القديمة الشكل الجديد جزءا من نمطيتها، وقد يستجيب الشكل القديم للآليات التي جاء بها وخلقها الشكل الجديد، ويغيّر من ذاته باستمرار، وفي إطار ذلك يتولّد شيئان: الأول يتمثل في أنه ليس هناك شكل قار ونهائي للشعرية العربية، وإن كان هناك شكل أكثر قدرة على الإمساك بالشعري، والأخير يتمثل في انتفاء جزئية التعاقب ليحلّ محلها التجاور.
وهذا يجعل الوقوف عند شكل إبداعي في الشعر العربي في اللحظة الآنية وقفة لها ما يبرّرها، خاصة في ظل سيادة بنية إبداعية أو نسق أصبح مغلقا على نفسه، يستجيب للصوتي والنمطي المتداول بين شعراء النسق، في سياق عزلة دون امتحانه في حضور الأشكال الأخرى. يدرك القارئ أو المستمع إلى القصيدة العمودية أنها في مأزق حقيقي، وأنها تعاني من مشاكل حقيقية، يتمثل أهمها في دورانها في نسق إبداعي قائم على تقليد البنية القديمة.
مشكل القصيدة العمودية الآن أنها موزعة بين ثبات إبداعي يجعل الكثيرين لا يتوقفون عندها بالدرس والمقاربة، وبين لهاث نحو القفلة الجماهيرية، تلك القفلة التي لا تجعلها تتأمل ذاتها وبنيتها بوصفها كلا كاملا فيظهر التفكك واضحا، ولهذا فهي تحتاج للاستمرار وفق رؤية مختلفة واستعدادات جمالية مغايرة، حيث عليها أن تفيد من الأشكال الشعرية الجديدة، وأن تفيد أيضا من الأنواع الإبداعية الأخرى في حركتها للمحافظة على وجودها.
ثمة فكرة مهمة لا يشير إليها كثيرون بشكل مباشر وإن أبصرنا حضورها لافتا، فاستمرار هذا الشكل متجاورا مع أشكال أخرى في جزء كبير منه مرتبط – من وجهة نظر أصحابه والمؤيدين لاستمراره – بالمحافظة على هوية فنية للشعر العربي بعيدا عن رياح التغريب التي يرون حضورها واضحا في شعر التفعيلة بوصفه مرحلة أولى متزنة تبقي على شيء ما من هذه الهوية الفنية الموروثة، وفي قصيدة النثر بوصفها الشكل الأكثر انفلاتا من حدود وأطر هذه الهوية الفنية. وأعتقد أن الوصول إلى حلّ لمشكل القصيدة العمودية رهين بمدى إفادتها من الكتابة الشعرية في هذين الشكلين، لأن هذه الإفادة تجعل القصيدة العمودية تتجلى بشكل مختلف، من خلال أساليب جديدة للمقاربة في وعيها بالعالم وفق رؤى جديدة تتماس فيها مع هذين النوعين الشعريين، خاصة في ظل الانتباه إلى فكرة البنية التي يعد فقدانها في القصيدة العمودية المشكل الأساسي بجوار ثبات الشكل.
الأحادية التعبيرية
هناك شعراء كثيرون من كتاب القصيدة العمودية لا يزال مفهومهم للشعر متجذرا داخل حدود الأحادية الصوتية التي تحيل النص إلى موقف عاطفي قائم على المشاعر أو غيرها من الجزئيات البسيطة. فالشعر من خلال تأمل الإبداع بشتى صوره بدأ يعتبر ذلك المنحى الأحادي توجها من الماضي، وبدأ متلقو الشعر ينفرون من هذا التوجه الإبداعي القائم على ذلك المنحى الذاتي في الكتابة الإبداعية، فلم تعد القصيدة – في ظل اكتشافات نمو الجانب الفكري والفلسفي بجوار التعبيري أو مدمجا به – مجرد نزوع تعبيري أو عاطفي، بل أصبحت التماسا وخلقا لتجارب عميقة تحتفي بالإطارات المعرفية والفلسفية.
فزحزحة الشكل أو كسر هيمنة الشكل الموروث من خلال منجز شعراء التفعيلة لم يكن عملا قائما على كسر النمطية الشكلية فقط، وإنما كان عملا يمسّ العملية الإبداعية كلها، فشعراء التفعيلة لم ينجحوا في إرساء قواعد شعر التفعيلة بوصفه شعرا له مشروعية، وله مقبولية لافتة من خلال كسر النمطية الموروثة، وإنما من خلال آليات أخرى واستعدادات خاصة، ربما يكون أهمها الثقافة في جانبها المعرفي.
والمعرفة في الإبداع الشعري، لا تنفي صوت الذات، ولكنها ترشده، وتجعله يتجلى بشكل مختلف خارج نطاق الأحادية التعبيرية، لأن المعرفة أو الثقافة أبنية مشيدة، تجعل الصوت الذاتي في مساحة المراجعة الدائمة ابتعادا أو اقترابا، أو في مساحة التناظر مشابهة واختلافا، ومن خلال الابتعاد أو الاقتراب أو المشابهة أو الاختلاف مع النماذج الثقافية أو المعرفية المؤسسة، يتكون نوع من الإرجاء الذي يهدهد الأحادية التعبيرية، فتطلّ محتمية بعدم اليقين الذي نرى نقيضه لدى الشعراء الآخرين من خلال إلحاحهم على البعد الأحادي المملوء باليقين.
ومن الصعوبة الخاصة بالفصل بين التوجهين التعبيري والفكري أو المعرفي، يمكن الإشارة إلى معاينة ظهور الأعلام التي تكشف عن وهج معرفي، سواء أكان هذا العلم أو النموذج شخصية أدبية شعرية، أو شخصية فكرية، أو دينية، لأن في حضور هؤلاء حضورا للأفكار والمعارف التي يمثلونها إبداعا شعريا أو فكرا يؤسس لتوجه ما. والمتأمل لحضور الشخصيات أو الأعلام في الشعر العمودي يدرك أن هناك حضورا جزئيا يكشف عن السرد المعلوماتي في أحيان كثيرة، وفي أحيان أخرى يكون هذا الوجود كاشفا عن دلالة جزئية مشدودة للدلالة النامية في النص.
إن نظرة فاحصة إلى قصيدة (أبو تمام وعروبة اليوم) للشاعر اليمني عبد الله البردوني، سوف تثبت مشروعية هذا التوجه، في كون الثقافي أو المعرفي حتى لو كان جزئيا- يمكن أن يؤسس من خلال التعاضد بين كل هذه الإشارات المعرفية إطارا كليا خاصا، يقوم على المقارنة بين الأمس واليوم، وتكرار التاريخي بنماذجه الدالة في كل لحظة، واستمرار هذا التكرار في إطار من الثنائيات المتقابلة بين (بابك الخرمي) و (المثنّى).
بنية التكرار وتمدد النصوص
وهي ظاهرة لن يتمّ الوعي بها أو بأثرها، إلا إذا كان لدى المتلقي وعي بحدود النسق المنفتح على الماضي وعلى الجاهز، سواء تمثل ذلك الجاهز في حدود بنية إيقاعية، لها قدرة وفاعلية حضور في اللحظة الآنية، أو تمثل في الارتباط ببنية الصور المجهرية الموروثة التي تلحّ حاضرة في أكثر النصوص العمودية حداثة من الناحية الزمنية، أو من خلال تأسيس وصناعة هذا الجاهز في حدود بنية تكرارية داخل النص الشعري تكون جاهزة وسببا في تمدد النص الشعري بشكل يعريه بنائيا، ويحافظ من خلال ذلك على صورة وصوت الشاعر المحفلي الغنائي.
وهي آلية لا يمكن أن تعدّ عيبا أو مظهرا من مظاهر الإخفاق على إطلاقه، خاصة إذا كان الشعر في الأساس قائما على التكرار لصناعة الإيقاع التركيبي أو الإيقاع الصوتي. ولكن ما نود الإشارة إليه هنا يتمثل في كون الشعر نتيجة لأسباب عديدة، منها حضور التلقي المحفلي والشفاهي الذي يؤسس في بنية القصيدة لحالة من حالات الثبات، يولّد ثباتا قائما على الاستعادة من خلال بنية تكرارية قائمة على تكرار اللفظة التي يمكن أن تكون نقطة الانطلاق أو بداية الحركة، في كل محاولة من محاولات مقاربة الحالة واكتشافها من جميع وجوهها.
وهناك نمط في الكتابة الشعرية كاشف في بعض الأحيان عن بداية التفكك خاصة إذا طالت القصيدة، لأن نقطة الانطلاق لا تتعلق بمقاربة جديدة تستقوي بالتبادل والتغيير اللفظي والحالات الإبداعية، ولكنها مشدودة إلى لفظة القفلة والإغلاق في البيت الشعري، فلا يعنى الشاعر بفراغات البيت الأخرى، طالما أعدّ عدته للفظة النهاية المشدودة للاستجابة المحفلية في الشعرية التعبيرية، ولتكديس المعنى الهارب الذي يضاف إلى منجز سابقيه داخل النسق أو الشكل الشعري، لأن هذا المعنى الهارب يشكل مجمل الإضافة داخل حدود النسق الإبداعي الذي يدور فيه.
وبناء على ذلك فإن البنية التركيبية التكرارية للنصوص هنا تتمثل في طبيعة النوع الشعري، والشعراء في ذلك الإطار يسيرون على خطى جاهزة، أو يعتمدون على آليات لها الكثير من الجاهزية لدى آخرين سابقين، وهذا التوجه يفقد الظاهرة الشعرية جديتها وتطورها الخلّاق وتجليها الحرّ، لأن الاتكاء على بنيات جاهزة يحيلها أو يشدها إلى نوع من الثبات، يمكن أن ندرك حضوره في أنماط إبداعية في الوطن العربي، وهي أنماط شعرية تتعاظم بالوجود داخل نسقها الإبداعي، لكنها لا تملك القدرة على التواجد بفاعلية في حضور أنساق إبداعية أو توجهات شعرية مغايرة.
وربما يكون من المفيد في هذا السياق التوقف أمام جزئية تبدو إيجابية في الظاهر، لإثبات الانتساب إلى الهوية الفنية التراثية المشدودة إلى الارتباط بالنسق العروضي والبحور الشعرية، ولا سيما البحور المركبة والصعب منها، خاصة بحر المنسرح. لكن هذا التوجه على وجاهته في قيمة الانتساب إلى الهوية الشعرية الموروثة له مزالقه الخطيرة في بقاء الشعرية في بعض الدواوين مكبّلة بالماضي في ارتهانها إلى بنية قديمة بوصفها إطارا كليا، وإلى آلية خاصة في بناء الصور الجزئية والمجهرية، آلية تمتاح من القديم، وتتغذّى عليه، وتتحرك في إطار دلالته المشدودة إلى البنيات والتجليات القديمة، فالإيقاعات أو الأوزان ليست أطرا صماء غير فاعلة، فهي من خلال تجليها في الكتابة قادرة على استحضار واستعادة الصور القديمة ببنيتها، فتأتي كاشفة عن وجودها القديم.
في ظل ذلك الحضور للنسق الموروث بكل كتله البنائية في القصيدة العمودية، يصبح على شاعر القصيدة العمودية أن يغيّب الإحساس بالوزن والقافية، بحيث يكون ذلك التوجه خطوة أولى، لابد أن تتبعها خطوات ترتبط بالآليات الفنية المعاصرة والحداثية، بالإضافة إلى جانب مهم يبتعد بالقصيدة العمودية عن الغنائية، وهو جانب الفكر أو المعرفة. فالإيقاع والفكر جانبان مهمان في النص الشعري، وحضور أحدهما بشكل طاغ لا يشير إلا إلى تغييب للآخر، والحدّ من سطوة وجوده.
ويبدو أن تغييب الإيقاع أو تبريده لدى شعراء القصيدة العمودية آلية تمّ الانتباه إليها من خلال مراقبة الاتجاهات الشعرية الأخرى، مثل شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، الأولى من خلال احتمائها بالفكري والثقافي، والأخرى في محاولتها التخلص من الاستدانة والاستلاب أمام أي شكل سابق موروث.
القصيدة العمودية تحتاج- في ظلّ التجاور الإبداعي للأشكال الشعرية العديدة- إلى وعي حاد وخاص بالمعرفة، وهذا الوعي يقضي على أحادية الصوت وسلطته، ويسدل مساحة من الصمت والتأمل للقصيدة، وخاصة بنيتها التي يجب أن تكون موضوعة داخل حدود التأمل المستمر، حتى لا يقضي على شرعية وجودها الصوت التعبيري الذي يمكن أن يفرّغ وجودها البنائي من خلال بنيات تكرارية جاهزة موروثة أو مصنوعة، فتحدّ من قيمة هذا البناء، ومن التحام أجزائه، وذلك من خلال الانطلاق من الجاهز بنمطية تكراره، وتحتاج – أيضا في ظل ارتباطها بالثقافي والمعرفي – أن تقلل من جهارة الصوت والإيقاع وحضوره، لكي تستطيع أن تحيل الصوت الشعري السارد من الذاتي إلى تعددية العوالم المحيطة التي يتجذّر فيها، وتشده حتما إلى نسق تأملي خاص.
“القدس العربي”