يكاد أدونيس يكون أكثر الشخصيات الثقافية حضوراً في المشهد الإعلامي العربي طيلة الفترة الماضية. فمن المملكة العربية السعودية التي زارها للمرة الأولى في حياته قبل ثلاثة شهور، إلى المغرب التي رحب مثقفوها به في أكثر من فعالية، إلى تتبع نقدي وكتابات عنه في غير مكان، يظهر أن الرجل الذي بلغ من العمر عتياً مازال يحافظ على همّته في الاشتغال على حضوره وعلى رؤاه، عبر الفعاليات ووسائل الإعلام على حد سواء.
ومن بين الفعاليات المرتبطة به، برز العدد الأخير من مجلة “أصدقاء ديونيسوس” الفصلية المغربية، الذي عنونه محرروه بـ”أدونيس: الغريب دمٌ آخرُ فيّ”! وكرسوه من أجل معرفة الشاعر السوري بشكل مغاير ومختلف، بعدما اكتشفوا “أنهم يجهلون كل شيء عنه” بحسب رئيس التحرير، بوجمعة أشفرى.
وفي مسعى المعرفة، جاء العدد مليئاً بالمقاربات الشعرية اللطيفة التي توجز علاقة أصحابها بالشاعر وبنصّه العميق، مع تركيز مكثف على كتابه “أدونيادا” الصادر قبل عامين والذي تتالت طبعاته بلغات عديدة. إذ نشر المحررون مقدمات مكتوبة لبعض الطبعات، لكن غالبية ما نُشر، ظهر، بالنسبة للقراء الذي يعرفون أدونيس، بشكل مختلف عن شكل المعرفة التي يطلبها رئيس التحرير. فبدلاً من التمحيص العميق في الدروب التي يسلكها الشاعر في نصه العام بالاستناد إلى ما كتبه المفكر المغربي موليم العروسي في مساهمته من أن كل كلمة تصدر عن الفنان (الشاعر هنا) هي جزء من صورته الشخصية، نرى أن الملف برمته ذهب في إطار “العمق” إلى التقليب في جانب واحد من البورتريه الشخصي، وتحديداً شعريته التي لا تبدو أصلاً مجهولة أو مغمورة. فحين توسعُ المكان من أجل مديح إضافي، أنت لا تأتي بجديد.
فأدونيس ينال الثناء دائماً على شعريته المتفوقة، لكنه قد لا يحصل على الشيء ذاته بالنظر إلى الأجزاء الأخرى من عمله. وحتى حين يتم اختيار نمط محدد من المواضيع البعيدة من الواقع، وإذا تمت مقاربة ثيمة الحرب مثلاً، نجد أن المادة المنشورة لعبد الكبير الخطيبي تتحدث عن أدونيس والحرب الأهلية اللبنانية وهي منشورة في كتاب صادر منذ العام 2004، وإذا جرب أحد ما مقاربة موقفه من الثورات، سيأتي الإيراد ضعيفاً عابراً كقول الكاتب الجزائري أحمد دلباني: ” وسمعتك- أيها الثائر على استبداد المرجعيات المغلقة وأنظمة الواحد والواحدية- تقول: “ما جئت لأبارك العالم. سأسرق مفاتيح طروادة الحصينة من تحت وسادة الآلهة وأسلمها لجموع الغاضبين الذين يتأهبون لاقتحامها كخيوط الفجر“!
وقد يكون من الطبيعي، حين يتحول العدد الاستكشافي إلى مجرد تجميع دعائي، أن يتوقف المحررون، على سبيل المثال لا الحصر، عند مترجم أدونيس التركي محمد حقي صوتشين، الذي يكتب مادحاً عالم الشعر عند الشاعر، وأن يتجاهلوا رسالة انتقادية حارة وجهتها الكاتبة والناشرة التركية بيرين بير سايغلي موت، بخصوص موقفه من الثورة في بلاده!
يمكن أن يحتاج أدونيس، مثله مثل أي إنسان، إلى من يطري عليه، ويسبغ عليه الصفات الحسنة، ولا يمنعُ الحياءُ القبول ببعض من التعظيم، لكن هذا سيكون مشروطاً بعمر التجربة التي عاشها وقيمتها، وحين يتم النظر إليها من زاوية الاختلاف يمكن فعلياً أن يكون نقدها جزءاً من امتداحها، من جهة احتواء الأضداد والاختلافات والتناقضات أيضاً، بوصفها مرتبطة بشخصية لطالما دعت لعدم الرضوخ والسكون.
لهذا، من المستغرب أن ينهض جهد إبداعي ما باتجاه الموقف الاحتفالي، وأن يغمض عن النقد والمساءلة للنص وللموقف الذي يعبر عنه، وأن يبدو النشاط منعزلاً عن الواقع المضطرب ذاته. وربما يؤدي التوغل في قراءة المسكوت عنه هنا إلى معرفة أخرى.
قبل زمن الربيع العربي، شكّل صوت أدونيس عتبة راسخة، كان لا بد للمثقف العربي أن يقف عندها مطولاً، من أجل الحصول على زوادة فكرية مفيدة في سياق انتقاد الواقع، والبحث في الحداثة، والتفكير في المستقبل.
صوت أدونيس العميق المتصاعد من ثنايا تحولات الحياة الثقافية العربية، بالتوازي مع إنجازات الثقافة الغربية، كان يأخذ المتلقين العرب إلى ضفاف تُستهاب في العادة، لكنها عبر نصه المحرض تصبح ممكنة لجهة النبش فيها، ومحاولة قراءة أجوبة عن الأسئلة التي لا تتيح السلطات الرسمية لأحد أن يطرحها.
مهاجمة الراهن السائد في أرض العرب، رافق حضوره أينما حل، لا سيما لجهة بحث الفئات الشبابية العريضة المتحمّسة عن مسارات بديلة للتلف الذي حل بالواقع، وضمن هذا السياق سينزل كثيرٌ من هؤلاء إلى الشارع وفي رأسهم أن ظهرهم محمي في هذه الزاوية التي تتعلق بفهم الثورة بوصفها أداة من أجل التغيير الشامل. فأدونيس الذي يدعو للتغيير وينظّر له، لن يكون بعيداً من الثورة التي يطمح صنّاعها للوصول إلى النهايات المبهجة ذاتها، أو على الأقل وضع البنى الرازحة في وضعية الخلخلة، وفتح الباب أمام الاحتمالات بعدما سدّت الديكتاتوريات الطريقة إليها.
ليست مهمة الآن استعادة الموقف التفصيلي لأدونيس من الربيع العربي، وهو موقف ملتبس ومشوش وغير قابل للتفكيك بالنظر إلى ديناميات تحولات الواقع ذاته خلال سنواته الحارة، لكن من المفيد جداً دراسة تحولات أدونيس، وقبل هذا السؤال إن كانت ثمة تحولات أصلاً! لا لتعريض الشاعر المثقف المنظر المفكر، إلى جرعات من النقد والنقد الشديد، وهو ما اعتاد جزء كبير من أبناء جلدته توجيهه له، بالنظر إلى ما يرون أنه سكوته عن السياق التفصيلي للمجزرة التي ارتكبها نظام الأسد، بل لقراءة الطبقة العميقة من استجابة أو عدم استجابة الفكر الثوري الذي ساد في المنطقة خلال العقود السابقة للتحركات الجماهيرية التي لا تحمل الأفكار نفسها ولا تتطابق مع البرامج السياسية للأحزاب التقليدية المعروفة.
هذا شأن مهم للغاية، ليس فقط للفاعلين في الثورات الذين غرقوا في الحيثيات الدموية وتحولوا إلى ضحايا جدد للأنظمة المستبدة التي قادت ثورات مضادة ما أدى إلى هزيمة محاولة التغيير. بل هو مهم أيضاً للنخب السياسية والفكرية والثقافية العربية التي عاشت زمن الترقب والتفكير في التغيير والحلم بالثورة من أجل وضع الشعوب على سكة المستقبل، وكتبت واشتغلت ودبّجت مليارات الكلمات في سبيل ذلك، لكنها حين ماد الواقع بالحراك المطالب بالحريات والكرامة والعدالة، ذهبت لتبحث في معيارية مدوناتها إن كان يطابق وصفتها للتغيير، وحين وجدت أنه ذو شكل مختلف وطابع غير مطابق تماماً، قامت بتجريمه ووصفه بأنه غير صادق وأنه يحمل في رحمه استعادة للتخلف، بالنظر أولاً إلى خطاب الجمهور في التعبير عن غضبه وثورته واستخدامه للغة التي يستخدمها حيث يقع في الملمات الكارثية، وبالنظر ثانياً إلى ما نتج عنه من تصاعد للمنظمات الجهادية وأفعالها الإرهابية، وصولاً إلى الدمار شبه الشامل الحاصل راهناً.
واقعياً، الغاضبون لا يذهبون إلى غضبهم بنعومة خيوط الفجر كما يفترض نصه المشار إليه أعلاه، بل يفعلون ذلك بكل ما أوتوا من أدوات سلمية وعنيفة طالما أنهم لم يُقابَلوا سوى بالدم.
في لحظات ذات حساسية عالية بالنسبة للجمهور، يترصد الضحايا الأصوات التي ترى مآسيهم، وقبل ذلك يتمسكون بالافتراضي مما يعتقدونه، ويدعم موقفهم. لا يبحثون فقط عن أصوات جهورة بمطالبهم أو تأخذ شكل أصواتهم ذاتها، لكنهم يتحسسون الأصوات الأخرى ويدققون في وقوفها مع حقهم، ويرتبون الأولويات وفقاً لهذا.
هذا هو منطق الهيجان في الشارع. وأمام الثائرين لا يمكن لمن يرى أن فعاليته ذات فرادة وخصوصية أن يقوم بالتنظير عليهم في شكل الثورة وفي طبيعتها ونهاياتها. إنهم بالأصل ينتظرون منه أن ينحاز لهم قبل أي أحد آخر، لأن جزءاً كبيراً من محرضات الحدث إنما جاء من أفكاره!
هذا ما كان ينتظره عموم الشباب الثائر من أدونيس الذي لم يعد صاحب موقع فكري ثقافي شعري، بل بات بالنسبة إليهم إما منحازاً ضدهم أو صامتاً عما يجري معهم!
التحذير من وقوع مقتلة بسبب الثورة، لا يحمل في مضمونه أي نقاط تفاضلية تُمنح لمن يقوم بالتحذير، نعم.. هذا أمر شديد الوضوح في الحالة السورية، على وجه الدقة، لقد فعل أدونيس ذلك، لكن هذا لا يعني السكوت عن الأدوات التي ستستخدم في صناعة المجزرة، ولا يجب أن يؤدي إلى تجاهل الأيدي التي ترتكبها.
لقد حذر مثقفون كثر من خطر وقوع الكارثة الدموية، وكانوا على حق، لأن من يعرف النظام وتمترسه التاريخي وراء سلطته وأدواته القمعية يدرك أن لا مجال للتمرد عليه، إن لم يؤدِ هذا الفعل إلى إزاحته، لأن النتائج ستكون مرعبة لجهة أفعالها التي ستستدعي ردود أفعال أخرى تسقط الحدود الأساسية في علاقة الإنسان بالإنسان. لكن ما كان يتوقع له أن يمر بمراحل عديدة قبل أن يصل على هذا الحد، سقط منذ الأيام الأولى للثورة، عندما صار فعل النظام يبدأ أساساً بفعل القتل، أي إبادة المعترضين من خلال قتلهم في مكان وزمن قيامهم بالتظاهر ضده.
ينتصر أدونيس على تاريخه من خلال إعلانه الرائج حالياً، من منابر متعددة، هزيمة جيل الحداثة الأول، بشكل مجمل، ومن دون الدخول في التفاصيل الدقيقة للتجربة. لكن تجربة الشاعر بالنسبة للأجيال الجديدة، لم ولن تنتظر حتى تحصل على حصتها من النقد، لا سيما عبر عدسات علاقتها بواقع الشباب الحاضرين فيها. وإذا كان البعض قد تماهى مع الشاعر وشخصيته بعدما استلبه سحرها، فإن آخرين يمتلكون موقفاً مغايراً ومنطلقات تملي عليهم ألا يصمتوا حيال ما يرونه انفصالاً عن الواقع بحجة العمق الشعري والبحث في فلسفات الوجود.
ملاحظة شخصية:
في العام 2012، في لقاء أجري معي في مجلة “بيت الشعر العراقي”، وجواباً على سؤال يخص موقف أدونيس من الحراك العربي والسوري منه على وجه الخصوص، قلت بأن من الواجب محاورة الشاعر بما يطرحه من آراء، وأنه من الضروري الابتعاد عن النزق والغضب من آرائه الصادمة، وعدت بعد سنوات لانتقاد موقفه الذي بدا لي ولغيري غير منسجم مع عمق أفكاره، خصوصاً حين يستسهل طرح الأفكار التفصيلية عن مستقبل سوريا، من دون أن يأخذ في الاعتبار عقابيل الكارثة التي صنعها الأسد بالشعب السوري.
“المدن”

























