ليس اليمن وحده بين الدول العربية من يحتكر لنفسه هذه السعادة ، وإن كان أكثرها " تمتعاً " بها في هذه الأوقات . فجميع الدول العربية ، أو لنقل على سبيل الدقة غالبيتها العظمى ، ترفل بأثواب السعادة اليمنية منذ عقود . وعمر هذه السعادة الطافية على السطح العربي الموحدة والجامعة له كقاسم مشترك أعظم من عمر الانقلابات والأحكام العرفية وتسلط العسكر على الدولة ، واحتلالهم المواقع الأولى في قيادتها . وما نشهده اليوم من حصاد زرع استبدادي مستمر منذ نصف قرن . لعبت فيه القوات المسلحة للدول كل الأدوار عدا دورها الحقيقي ، وملأت بنشاطها الصاخب ونتائجه " الباهرة " كل الساحات عدا ساحتها الفعلية . واستخدمت السلاح – الذي أودعه الشعب عنايتها واستأمنها عليه – في حسم الخلافات والصراعات الداخلية والتأثير فيها أكثر مما استخدمته على حدود الوطن وباتجاه العدو .
وفي حين يتوج الفشل والدمار معظم نتائج أفعالها في قيادة الدولة والمجتمع ، فقد سجلت نجاحاً شديد الوضوح بقدرتها على الاستمرار والبقاء في السلطة ، لا بد من الاعتراف به . وكما نجحت في تعطيل آليات التغيير وسد منافذ التداول السلمي للسلطة ، فقد نجحت في فتح معبر خاص لتجديد نفسها وتأبيد سلطتها عن طريق توريث الذراري ، التي يبدو أنها أصبحت نهجاً لافتاً وسنة متبعة للممالك والإمارات والجمهوريات والجماهيريات العربية في مشارق بلاد العرب ومغاربها .
استخدمت السلطات العربية المتعددة كياناً والموحدة نهجاً الأساليب نفسها في مقاربة شؤون الحكم ومعالجة قضايا الدولة والمجتمع . وكانت تبدل وجوهها ، وتنتقل من غطاء إيديولوجي إلى آخر بطريقة مسرحية ، دون أن يكلفها ذلك عناء التفسير . فمن الشعارات الحزبية والقطرية ، إلى الطروحات العروبية والقومية ، إلى رايات الاشتراكية والعدالة والتنمية ، إلى العباءة الدينية والخطاب الإيماني المتأسلم . غير أنها بقيت مخلصة لوسيلتها المفضلة ، والتي يبدو أنها لاتتقن غيرها ولا تأنس إلا لها ، ألا وهي قوة القهر والتسلط . فكانت النتيجة : تصدع في البنية الاجتماعية والوطنية ، تدمير وفساد ونهب منقطع النظير على الصعيد الاقتصادي ، تخلف مريع على الصعيد الفكري والثقافي والتعليمي ، عجز عن تلبية متطلبات المجتمعات المعاصرة والدول الحديثة ، تهميش للشعوب وشل لإمكانياتها في إدارة شؤونها وتقرير مصيرها ، حصر للسلطة بيد زمرة قبلية أو طائفية أو حزبية أو عسكرية أو عائلية ضيقة . فهل من عجب بعد ذلك أن ينطوي الوضع العربي برمته على مشاريع حروب أهلية متفجرة أو كامنة ، وعلى مشاريع انقسام وتقسيم واقتسام تضع الدولة الوطنية في مهب الريح ، وتفسح في المجال للتدخلات الخارجية من قبل الأعداء والطامعين وأصحاب الأجندات المشبوهة .
ما يجري في اليمن اليوم صورة مثيلة لما جرى في بعض الدول العربية من قبل ، وما يمكن أن يجري في بعضها الآخر من بعد ، طالما استمر العقل السلطوي على حاله وآليات عمله واحدة . ومهما قيل عن حجم التدخلات الخارجية ودورها في تأجيج الصراع وتسليح المتمردين الحوثيين وتصعيد القتال ( وهو موجود بالفعل وخطير بالفعل أيضاً ) ، غير أن مسؤولية النظام الحاكم فيما يجري أكبر وأشد خطورة . فمشهد الطائرات اليمنية المغيرة على اليمنيين ، والدبابات التي تقتحم قراهم ، وراجمات الصواريخ التي يوجهها الجيش إلى صدور الشعب ، لا يمكن أن تكون مقبولة تحت أي مسمى داخلياً وعربياً ودولياً . وسيكون لها عقابيل مرة تثقل تاريخ اليمن وضمائر اليمنيين ، حتى وإن استتب الأمر لحكومة الجنرال الذي خاض ست حروب أهلية خلال رئاسته ، وانتصر فيها على شعبه .
صحيح أن التمرد المسلح على الدولة مرفوض ، وهو شيء من الماضي . وأن على الدولة أن لاتخضع لابتزاز القوة ، وأن تواجه السلاح الذي يواجهها ، وتحافظ على السلم الأهلي والاستقرار والأمن ، وهذا من واجباتها ومسؤولياتها ، لكنها لا تستطيع أن تتنصل من مسؤوليتها عن وصول الوضع إلى هذه الحالة المتفجرة . ومن الصحيح أيضاً أن حكم البلاد شأن سياسي ، وقضايا الحكم والدولة لا تعالج إلا سياسياً ، حتى في حال الاضطرار لاستخدام القوة . فاستعمال السلاح يجب أن يبقى فعلاً سياسياً بوسائل أخرى ، أي جزءاً من مشروع سياسي للحل ، أو دافعاً لنجاح هذا المشروع .
مشهد الحرب الأهلية الجديدة في اليمن يدعو للأسى ، ويبعث على القلق من تأجيج الانقسامات والتمذهب في المحيط العربي . كما يبعث على الخوف من انتشاره خارج الحدود اليمنية باتجاه هشيم الدول التي تحرسها سلطات فئوية قمعية استبدادية ، وترقد على جمره شعوب أنهكها التسلط والتهميش والحرمان .
20 / 9 / 2009 هيئة التحرير