أعلن رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن إسرائيل على عتبة التطبيع مع السعودية، فيما قال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إن بلاده باتت أقرب إلى التطبيع مع إسرائيل، ما يعني أن اتفاقية إسرائيلية – سعودية أصبحت مسألة وقت.
هذا يجعل العالم العربي على حافّة مرحلة جديدة تمهد لدمج الدولة الصهيونية في المنطقة وإلغاء الحقوق الوطنية الفلسطينية. وعليه؛ القضية الفلسطينية مجرد عقبة يجب إزالتها. ولكن، هل اتفاق تاريخي بين دولة مثل السعودية وإسرائيل مسألة سهلة؛ ففي مقابلته مع قناة فوكس الأميركية، التي بشر فيها بن سلمان بتطبيع، قال إن القضية الفلسطينية مهمة جدا في مسألة التطبيع مع إسرائيل، ويجب أن يتحسّن وضع الفلسطينيين، حتى تستطيع إسرائيل لعب دورها في المنطقة. وهنا لا نعرف ماذا يعني بـ”تحسّن وضع الفلسطينيين”، لكننا نعرف أن حكومة المستوطنين الإسرائيلية ماضية في دفع الفلسطينيين إلى الهاوية، ولن يكون هناك أي تحسّن في حياتهم، حتى لو أخذنا بالاعتبار المفهوم الأميركي المهين لتحسين نسبي لشروط عيش الفلسطينيين تحت نير الاحتلال، فالحكومة الحالية ليست مستعدّة حتى لذلك.
لكن الرياض، تحت ضغوط واشنطن، قد تقبل بوعود إسرائيلية – أميركية واهية، لتنطلق العربة باتجاه ما أطلق عليه نتنياهو “الشرق الأوسط الجديد” الذي حلم به صهاينة آخرون، أبرزهم الرئيس الإسرائيلي الراحل شمعون بيريس، فلا وجود لعالم عربي، ولا قضية فلسطينية في الخريطة التي يبشّر بها نتنياهو، بل قوة إقليمية هي إسرائيل مدعومة أميركيا، تنهل من أموال النفط العربي لتثبيت تفوّقها، فإسرائيل ستطلب ثمنا باهظا لما تعتبره تنازلا للسعودية عن أي مطلب تريده الرياض، بشرط أن لا يتعلق بجوهر القضة الفلسطينية، فالضجيج الذي يُحدِثه بعض الأشخاص، وفي صدارتهم كاردينال السياسة الخارجية الأميركية، هنري كيسنجر، وساسة إسرائيليون وقيادات مؤثرة في الكونغرس ضد قبول أميركي محتمل للسماح للرياض بتخصيب اليورانيوم مبالغ فيه، فقد قال محمد بن سلمان إن بلاده لن تحاول تصنيع قنبلة نووية إلا إذا سُمح لإيران بذلك، ليردّ مستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، بأن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بتصنيع مثل هذه القنبلة أصلا. لكن كيسنجر وآخرين من المتعصّبين لدولة إسرائيل لا يثقون بأي دولة عربية، ويتحسّبون لانقلاب أو تغيير، فهناك خوفٌ دفينٌ من عمق المشاعر العربية تجاه فلسطين، ومن تأثير او تدخل إيراني في السعودية.
الإدارة الأميركية لم تعد تخشى من ردود فعلٍ عربيةٍ غاضبة تفسد مسار “عملية السلام” غير الموجودة
لا تبدو الإدارة الأميركية معنية كثيرا بهذا الجدل، إذ ترى أن اتفاقية تطبيع إسرائيلية – سعودية هي “الجوهرة” التي ستحقق أهداف الاستراتيجية الأميركية، وتمحو القضية الفلسطينية من كل معادلة العلاقات الإقليمية والدولية، فدمج إسرائيل في المنطقة يهدف إلى إلغاء الحقوق الوطنية الفلسطينية. إذ تعمل واشنطن على لىّ تحويل المنطقة إلى ممرّ سياسي وتجاري وعسكري بين آسيا وأوروبا، وهي تأمل بأن ينهي ذلك تدريجيا عداء الشعوب لإسرائيل، إذ تصبح الدولة الصهيونية القوة التي تدير المنطقة أمنيا وعسكريا واقتصاديا وتتحكّم في ثرواتها. فمع صعود الصين تهديدا حقيقيا لعالم القطب الواحد، وخصوصا بعد نجاحها في تحقيق “مصالحة إيرانية – سعودية”، إضافة إلى تمدّد نفوذها الاقتصادي، وانضمام دول تعتبر حليفة لأميركا، ومنها السعودية، إلى حلف ما يسمى “البريكس”، أصبحت استعادة السعودية مجدّدا إلى مدار أميركا أولوية، والتطبيع الإسرائيلي – السعودي حاجتين ملحّتين، فقد اهتزّ هدف واشنطن بتهويل التهديد الإيراني وجعله ذريعة لطلب الحماية الأميركية واستكمال حلقة التطبيع مع إسرائيل. فمن منظور الإدارة الاميركية، لم يعد ربط السعودية السياسي والاقتصادي بإسرائيل خيارا مهما، بل جزءا من الاستراتيجية الأميركية في منع تثبيت قوة عظمى أخرى، وهي الصين، وتحجيم هيمنة روسيا في أوروبا، وتقزيم إيران قوة إقليمية في المنطقة. لذا؛ نرى أن واشنطن ليست معنيةً كما كانت سابقا بالتهدئة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي أصلا لم تكن معنية بإحياء “عملية سلام”، ولو كذبا وتضليلا، لأن أولوياتها اختلفت، ولأن الإدارة الأميركية اقتنعت بما كان مقتنعا به الرئيس السابق دونالد ترامب، بأن “السلام في المنطقة” يجب أن لا يتوقف على قبول الفلسطينيين، بل على القبول العربي من خلال معاهدات تطبيع تحالفية تقبل بحق اليهود التاريخي في أرض فلسطين، أي أنها لا تعترف بحقوق الفلسطينيين التاريخية والوطنية، وبذلك يحاصر الفلسطينيين، ويدفعهم، عاجلا أو آجلا، إلى الاستسلام الكامل، بإعلان استسلام أو بدونه، لا يهم.
ليست جديدةً فكرة بدء التطبيع مع المحيط، أي الدول العربية، وعزل الفلسطينيين ودفعهم إلى الاستسلام، بل كانت متداولة بعد النكبة في 1948، لكن انطلاقة الثورة الفلسطينية جعلتها أكثر صعوبة، ولذلك كان ضروريا إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، كانت مهمّة حتى لا يتم الاعتراف بهوية فلسطينية، لكن الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987 قلبت المعادلة، وكانت هزيمة العراق مدخلا لمحاولة تطويع الفلسطينيين من خلال اتفاق أوسلو عام 1993. لكن مفهوم البدء “بالمحيط” عاد وبقوة مع تسلم ترامب الرئاسة الأميركية ونجاحه في التوصل إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، التي أذهل نجاحُها حتى الصهاينة، فقد غيرت اتجاه السياسة الأميركية، ورأت واشنطن أن الاتفاقيات الإبراهيمية مثّلت فرصة غير مسبوقة لفرض الاستسلام الكامل على العرب والفلسطينيين.
ترى الإدارة الأميركية أن اتفاقية تطبيع إسرائيلية سعودية هي “الجوهرة” التي ستمحو القضية الفلسطينية من كل معادلة العلاقات الإقليمية والدولية
من هنا، جاءت الضغوط الهائلة على السعودية؛ فالإدارة الأميركية لم تعد تخشى من ردود فعلٍ عربيةٍ غاضبة تفسد مسار “عملية السلام” غير الموجودة، ومصلحتها الاستراتيجية في تقويض نفوذ الصين لا تحتمل التأخير. لذلك نراها تركّز على الاستعجال بربط المسارات الاقتصادية التي تربط المنطقة بإسرائيل، وحان الإعلان عن المشروع الأكبر؛ وهو بناء سكّة حديدية تربط الهند بأوروبا مرورا بالأردن والسعودية والإمارات، لتكتمل به خطة إضعاف نفوذ الصين وتحقق هدف دمج إسرائيل، فالعالم العربي ليس إلا مجرّد “كوريدور” ومحطة لضمان تربُّع أميركا على عرش القوى العظمى الأوحد، وإنهاء الطموحات الوطنية والسيادية ليس للشعب الفلسطيني وحسب، بل للشعوب العربية أيضا. فكان لا بد من الاستعجال في عقد معاهدة إبراهيمية بين إسرائيل والسعودية، بعد أن جرى الإعلان الرسمي عن مشروع السكة الحديدية على هامش قمة العشرين في التاسع من سبتمبر/أيلول الجاري، وبعدها عاد الضغط على بن سلمان الذي انتهى بتصريحاته لقناة فوكس نيوز.
قد لا تكون إسرائيل والسعودية على عتبة التطبيع كما أعلن نتنياهو، فعبارة “تقترب” التي قالها بن سلمان تتباين في المعنى وإن قليلا، التي قد تعكس تردّدا سعوديا في الدخول الفوري في معاهدة مع إسرائيل، في ظل التصعيد الإسرائيلي الوحشي ضد الفلسطينيين. لكن يبدو أيضا أن تصريح نتنياهو كان مطلوبا أميركيا لتهيئة الأجواء داخل السعودية، وتحويل التركيز إلى “نجاح إسرائيلي قريب”، بدلا من التركيز على الأزمة.
“العربي الجديد”