أثارت بعض الفيديوات التي انتشرت على منصات الأنستغرام وتك توك الكثير من السخرية، لأنها لعبت على مفارقة مضحكة مبكية، إذ اقتطع ناشطون أجزاء من خطابات وتصريحات لسياسيين غربيين يدينون فيها جرائم الحرب وقتل المدنيين ومنع دخول المساعدات الإنسانية، ثم يظهر في نهاية الفيديو أن الحديث كان عما يجري في أوكرانيا، وليس ما يدور من جرائم في غزة.
وهناك إجماع واسع النطاق يتشكل عالميا لرفض جرائم الحرب، التي ترتكب في غزة، إذ ذكرت منظمة أوكسفام، بعد أيام من بدء الرد الإسرائيلي على هجوم حماس في 7 أكتوبر، أن الحصار المفروض على غزة يشكل عقابا جماعيا وينتهك القانون الدولي. وتقوم منظمة العفو الدولية بتوثيق الهجمات غير القانونية على المدنيين، وتدعو إلى التحقيق فيها باعتبارها جرائم حرب. وفي إدانة اللجنة الدولية للصليب الأحمر للفظائع المرتكبة ضد المدنيين، اعترضت على أوامر إسرائيل لسكان غزة بإخلاء منازلهم، من دون الوصول إلى الضروريات الأساسية، باعتبارها تتعارض مع القانون الدولي.
وقد تجلى نفاق الغرب، في أوضح صوره، في قمة دولة العشرين التي عقدت في نيودلهي، حيث طالب قادة الولايات المتحدة وحلفاؤهم الغربيون، دول الجنوب العالمي باتخاذ موقف من الاحتلال الروسي لأوكرانيا والجرائم الناتجة عن العمليات العسكرية التي تنفذها روسيا في أوكرانيا، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أوكرانيا حصلت وتحصل على أضخم حجم مساعدات عسكرية ومدنية ولوجستية في تاريخ حروب العالم، لكن كل ذلك الدعم الساعي لتقليم أضافر بوتين كان مغلفا بشعارات الالتزام بالقانون الدولي، وعدم خرق حقوق الإنسان، ومنع وقوع جرائم الحرب. وعلى الرغم من الحصيلة الكارثية من الموت والدمار والخراب الذي حصل نتيجة الحرب المسعورة، التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة المحاصر، يبدو أن القانون الدولي وحقوق الإنسان ومنع ارتكاب جرائم الحرب، أصبحت في الحواشي، في حين يُظهر حلفاء إسرائيل تضامنهم ودعمهم الثابت لحق إسرائيل غير المقيد في الدفاع عن النفس، وهم يكررون على استحياء أن الهجوم الإسرائيلي يجب أن يتم في إطار قوانين الحرب، لكنهم لم يدعموا ذلك بإدانة الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل، ولم يبذلوا جهودا حقيقية لوقف العدوان. وفي هذا المضمار نشرت صحيفة «فايننشال تايمز» مقالا كتبه هنري فوي جاء فيه: «لقد حذر مسؤولون ودبلوماسيون من أن الدعم الغربي للهجوم الإسرائيلي على غزة، أدى إلى إضعاف الجهود الرامية لبناء إجماع مع دول الجنوب العالمي المهمة مثل، الهند والبرازيل وجنوب افريقيا، بشأن إدانة الحرب الروسية ضد أوكرانيا. وقالوا إن رد الفعل على الحرب في غزة أفسد شهورا من العمل لتصوير موسكو على أنها دولة منبوذة عالميا، لانتهاكها القانون الدولي، مما كشف نفاق الغرب والولايات المتحدة وحلفائهم». وأضاف مقال الصحيفة أنه قبل أربعة أسابيع فقط من هجوم حماس على إسرائيل، حضر زعماء الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، وطلبوا من دول الجنوب العالمي إدانة الهجمات الروسية على المدنيين الأوكرانيين، من أجل دعم احترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي. لاحقا صرح العديد من المسؤولين في دول الجنوب، الذين حضروا قمة العشرين لصحيفة «فايننشال تايمز» إنهم ردوا على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بالحجة نفسها وطالبوا بإدانة الهجوم الإسرائيلي الانتقامي على غزة، وقرارها منع إمدادات الغذاء والدواء والمياه والكهرباء والغاز هناك. وتشعر فرنسا بشكل خاص بالقلق إزاء خطر التصعيد في الصراع الدائر في قطاع غزة، وتعتقد أن روسيا لم تعد تلعب دور «القوة العظمى» التقليدي المتمثل في كبح جماح حلفائها في المنطقة، ولكنها بدلاً من ذلك ترى فرصة لاستهلاك الموارد الأمريكية وصرف الانتباه عن أوكرانيا. وقال دبلوماسي غربي كبير: «علينا أن نمنع روسيا – بدعم من الصينيين – من أخذ زمام المبادرة واستخدامها ضدنا. هناك خطر من أن نشهد في التصويت المقبل في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن دعم أوكرانيا انفجارا كبيرا في عدد الممتنعين عن التصويت». وفي قمة طارئة في دائرة فيديوية مغلقة تحدث زعماء الاتحاد الأوروبي قبل أيام، حيث حذر العديد من القادة من أن الفشل في دعم حقوق الفلسطينيين في غزة يخاطر بتعريض الدول الغربية لتهمة النفاق، حسبما قال العديد من الأشخاص المطلعين على المناقشة، وكان الدافع وراء هذه المناقشة هو الغضب الذي تشهده شوارع العديد من عواصم ومدن الغرب، على الرغم من السياسات القمعية المتخذة، والتهديد الذي يطال من يشارك في التظاهر، أو دعم الحق الفلسطيني في الحياة حتى بمنشور على منصات التواصل الاجتماعي. من جانب آخر انتقد الرئيس البرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا إمدادات الأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا، ووصفها بأنها «تشجع» الحرب. وقد قامت البرازيل، بصفتها رئيسة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذا الشهر، بصياغة مشروع قرار لوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة. لكن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض ضد القرار، لأنه لم يذكر حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، وقد أعرب سفير البرازيل لدى الأمم المتحدة، سيرجيو فرانسا دانيز، عن إحباطه. حيث قال: «إن مئات الآلاف من المدنيين في غزة لا يمكنهم الانتظار أكثر من ذلك، في الواقع، لقد انتظروا لفترة طويلة جدا».
يتعين على زعماء الغرب أن يحكموا على أقوال وأفعال إسرائيل بوضوح وشجاعة أخلاقية، إذ أن المعايير المزدوجة باتت واضحة للعيان بشكل لا يمكن إخفاؤه
إن نفاق الغرب تجلى بأوضح صوره في إدانة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين المتكررة للهجمات الروسية على البنية التحتية الأوكرانية، واعتبارها جرائم حرب ترتكبها إدارة بوتين، بينما نراها تهرول لزيارة تل أبيب وتدعم حكومة نتنياهو اليمينية وترفض الاعتراف بالمعاناة التي سببها القصف الإسرائيلي الهمجي على المدنيين الفلسطينيين، لذلك علّق عدد من المراقبين على ذلك بقولهم إن مثل هذه المعايير المزدوجة واضحة للعيان بالنسبة لسكان الجنوب العالمي، وهي بمثابة هدية دعائية لدول مثل روسيا والصين سوف تستثمرها في كسر الإجماع الدولي الذي أدان العملية الروسية في أوكرانيا.
لقد ازدهرت القضية الفلسطينية منذ فترة طويلة في الجنوب العالمي، وبالتالي فإن حرب غزة لم تؤد إلا إلى زيادة الاستياء في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث يتعامل الغرب مع أوكرانيا كحالة خاصة، لأنها حرب أوروبية، وهم يقدمون الأموال السخية التي تُنفق على تسليح أوكرانيا، بينما يتم تجاهل أهداف التنمية في مختلف دول الجنوب. وقالت هانا نوت محللة الشؤون الأوروبية الآسيوية في برلين، إن هناك تصورا بأن الغرب «يهتم أكثر باللاجئين الأوكرانيين، وبمعاناة المدنيين الأوكرانيين، أكثر مما يفعل عندما يعاني البشر في دول مثل اليمن، وفلسطين، والسودان، وسوريا». وفي أوروبا، دارت المناقشة إلى حد كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث انتقد بعض المعلقين نفاق أوروبا بسبب أساليبها المختلفة في التعامل مع الحربين في أوكرانيا وغزة، في حين لم يعلق سوى عدد قليل من السياسيين بشكل مباشر. وكتب كارل بيلدت، رئيس الوزراء السويدي السابق، على منصة تويتر: «أن العالم يرى معايير مزدوجة في السياسة الغربية تجاه الحربين، وسواء كان ذلك صحيحا أم خطأ، فهذا شيء يجب أن نتعامل معه». ويتعين اليوم على زعماء الغرب أن يحكموا على أقوال وأفعال إسرائيل بالقدر نفسه من الوضوح والشجاعة الأخلاقية، إذ أن المعايير المزدوجة باتت واضحة للعيان بشكل لا يمكن إخفاؤه. فمن الواضح أن حياة الفلسطينيين تحظى بقيمة أقل في صراع تم فيه تجريدهم من إنسانيتهم، بما في ذلك تصويرهم على أنهم «حيوانات بشرية» في تصريحات مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية. وبالتالي فإن اي حديث سابق أو لاحق عن حقوق الإنسان، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والتهجير القسري التي تستخدمها الحكومات الغربية لتدين بها ما يحدث في مختلف ساحات الحروب في العالم، هي عبارة عن أكاذيب، وتهم يتم استغلالها لتمرير صفقات سياسية مغلفة بالنفاق الغربي المقزز.
كاتب عراقي
“القدس العربي”