حين أُعلن وقف إطلاق النار في حرب الخليج الثانية عام 1991، كان هناك جيش عراقي مهزوم تعداده أكثر من ربع مليون جندي في طريقه إلى الأراضي العراقية، غير أن أحداً من ذلك الجيش لم يصل إلى بيته. هل انشقت الأرض وبلعته أم أنه ضل الطريق وذهب إلى مكان آخر؟ كان هناك طريق للموت اتخذ منه الأميركيون مأثرة جديدة لهم بعد مآثرهم في فيتنام وكمبوديا والسلفادور.
خلال تلك الحرب ارتكبت القوات الأميركية مجازر عديدة، كانت مجزرة ملجأ العامرية أكثرها ترويعاً. أكثر من سبعمئة وخمسين طفلاً وامرأة قُتلوا وكانوا يشعرون أنهم يختبئون في أكثر الأماكن أمناً في العراق. غير أن ما لم يكن يتوقعه أحد أن تلجأ الولايات المتحدة إلى إبادة جيش كامل، كان متوقعاً أن يثأر لهزيمته من خلال تغيير نظام الحكم في بغداد. وهو ما لم يرغب الأميركيون في وقوعه حينها. لذلك كانت إبادة ذلك الجيش هي الحل. لم يعلن النظام العراقي يومها الخسائر البشرية. فهل ارتكبت الولايات المتحدة جريمتها من أجل أن تحميه من السقوط أم أنها أرادت أن تضيف أسطورة جديدة إلى مجموعة أساطيرها في القتل الجماعي؟ ما حدث بعد عام 2003 حين احتلت الولايات المتحدة العراق بدا واضحاً أن المجازر الجماعية كانت هدفاً نموذجياً لتأكيد القوة وترويع العدو. وهو ما حدث في الفلوجة، المدينة الصغيرة التي تقع غرب العراق والتي خاضت فيها القوات الأميركية حربين مدمرتين عام 2004.
من القضاء على “حماس” إلى إبادة أهل غزة
في كل حروبها على غزة انطلقت إسرائيل من المبدأ نفسه. الإبادة الجماعية من أجل تأكيد القوة وترويع العدو. في الحروب الخمس الماضية كانت حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” تطلقان صواريخ لم تكن ذات تأثير كبير على الداخل الإسرائيلي ولم تتسببا بوقوع خسائر بشرية كبيرة، غير أن الرد الإسرائيلي كان مفرطاً في عنفه بطريقة مبالغ فيها. فناهيك بسقوط مئات المدنيين الفلسطينيين قتلى وجرحى ومعوقين، كانت إسرائيل تحرص على تدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية التي لم تتمكن حملات الإغاثة والإعمار من إعادة تشغيلها بما يتناسب وحاجة نحو مليوني إنسان، كان قد قُدر لهم أن يقعوا فريسة لغريزة وحشية في الانتقام. أما في هذه الحرب وهي السادسة، فإن ضربة “حماس” كانت هي الأشد إيلاماً. ليس لأنها تسببت منذ اللحظة الأولى في سقوط أكثر من ألف قتيل إسرائيلي فحسب، بل أيضاً لأنها مكّنت الفلسطينيين من أسر أو اختطاف نحو مئتي إسرائيلي كلهم من المدنيين، وهو ما لا تجد فيه حركة “حماس” خرقاً لقواعد الحرب بينها وبين الجانب الإسرائيلي الذي لم يفرّق في حروبه بين مدني ومقاتل. وهي حالة شاذة لا يمكن معها الكيل بمكيالين كما يفعل المجتمع الدولي حين يتعلق الأمر بالدفاع عما يُسمى بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس. في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أُخذت إسرائيل غفلة كما يُقال، وهو ما أصاب المجتمع الإسرائيلي بهستيريا كان عنوانها القضاء على “حماس”، ولكن محتواها يصب في الرغبة في إبادة أكثر من يمكن من أهل غزة كما لو أنهم يشكلون الخزان البشري لحركة المقاومة. وهو تبسيط لم يستنكره العقل السياسي الأوروبي.
أصوات الضحايا المكتومة
إذا كانت الصحف الأميركية قد فضحت وقائع ما جرى من أساليب تعذيب مخزية في سجن “أبو غريب” على أيدي الجنود الأميركيين، فإن حملات الإبادة الجماعية التي قامت بها القوات الأميركية لم يسلط عليها ما يكفي من الضوء وبقيت طي الكتمان. وبناءً على الوقائع التي شهدها العراق عبر العشرين سنة الماضية، والتي كانت في معظمها صناعة أميركية حتى وإن كانت الواجهة عراقية، فإن أقرباء الضحايا والشهود العيان لم يتمكنوا من قول شهاداتهم أمام محكمة دولية أو تمريرها من خلال الصحافة العالمية لأنهم يشعرون بالخوف أولاً، وثانياً لأن حكومات بلادهم لا تزال متواطئة مع سلطة الاحتلال الأميركي التي ذهبت ولم تذهب هيبتها الاعتبارية. فهي التي خلقت النظام السياسي الجديد وهي التي لا تزال تتقاسم الوصاية مع إيران عليه. كل الجرائم التي ارتكبها الأميركيون ضد الإنسانية في العراق لا تزال أمراً مسكوتاً عنه. لقد مُنع سكان المدن المنكوبة من نشر قصصهم المأسوية. ما الذي رُوي عن الفلوجة في حربيها؟ لا شيء. ما نقلته قناة الجزيرة القطرية لم يكن إلا تهريجاً. ولكنّ هناك مدناً عراقية أخرى تعرضت لمختلف أنواع الإبادة التي مارستها القوات الأميركية والشركات الأمنية التابعة لها، ومن بعدها الميليشيات الإيرانية، ولم يُسمع عنها شيء على المستوى العالمي، وظلت أخبارها حبيسة التداول المحلي الخائف. ما حدث في العراق بعد عام 2003 يمثل واحدة من أكثر مآثر الأميركيين خسة ونذالة في التاريخ الحديث. فهل سينصف التاريخ العراقيين؟
تاريخ يكتبه الغزاة
ستوقف إسرائيل حربها على غزة بشروطها. ولكن بعد أن تكون قد ارتكبت جريمة إبادة جماعية جديدة. أضافت هذه المرة المستشفيات إلى سجلها. في حرب الثماني سنوات كانت إيران قد سبقتها في استهداف المستشفيات في العراق، كما أن الأميركيين كانوا قد احتلوا مستشفى الواسطي في بغداد بشهادة مديره الدكتور علاء بشير. وبعكس أهل غزة الذين يتحيرون في البحث عن أرض لدفن موتاهم، فقد دفن أهل الفلوجة قتلاهم في حدائق بيوتهم. عليك أن تتخيل البيوت التي صارت مقابر. ما تعلمه الإسرائيليون من الأميركيين صار على أهل غزة أن يتعلموه من أهل الفلوجة بطريقة معكوسة. ولكن ماذا لو كان أهل غزة لا يملكون حدائق؟ وأيضاً ماذا لو سويت بيوتهم والأرض؟ الكارثة أكبر من أن تُروى. ذلك ما قرر الغزاة أن يصنعوا منه تاريخاً.
“النهار العربي”