منذ اليوم الأول لحصاره المحكم اسرائيليًا كليًّا ومصريًا جزئيًّا، في عام 2007، يتعرض قطاع غزة لحروب بشعة تطلقها بين الحين والآخر آلة القتل الإسرائيلية التي تعزّزت وقاحتها السياسية والأمنية بوصول أحزاب اليمين المتطرف إلى سدّة إدارتها السياسية والعسكرية والدينية. إلى جانب المتطرفين والمتدينين وأصحاب نظرية التفوق، انضم أصحاب نظريات التطهير العرقي الجديرة بالعقلية النازية والذين يدعون إلى قتل العرب الفلسطينيين، من مسلمين ومسيحيين، أو ترحيلهم إلى مصر والأردن، لاستكمال المشروع العقاري التوراتي المزعوم تحت شعار “من البحر الى النهر” في أضيق طموحاته.
ومنذ انطلاقة الحرب الخامسة على غزة غداة هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على منطقة غلاف غزة في السابع من شهر تشرين الأول / أكتوبر المنصرم، يدور الكثير من اللغط والتفسير والاجتهاد، إما تأييدًا أو انتقادًا، ووصولاً إلى الإدانة التي غلب على أصحابها موقف عدائي مبدئي لحركات الإسلام السياسي دون الأخذ بعين الاعتبار الحق المشروع في مقاومة الاحتلال. كما تنطح البعض من العرب ومن في حكمهم إلى ركوب موجات الإدانة الغربية الرسمية التلقائية ليترجموا، فيما يترجمون، احساسًا دفينًا بعقدة النقص تجاه الآخر “المتحضّر” مما يدفعهم، بوعي أو من دونه، إلى الإحساس بضرورة إعادة انتاج ادانته القائمة على مفاهيم التفوق العرقي (وبالتالي الحضاري والأخلاقي).
هؤلاء لم ينصتوا لصوت التوازن الذي لم يحرم المنتقدين من حقّهم الذي لا لبس فيه في اعتبار أن ما جرى في 7 تشرين الأول / أكتوبر الماضي سببًا رئيسيًا في تحريض ردة فعل مدمرة تلته. كما أن التوازن في التحليل ربما قادهم لقبول بعض الأجوبة من المؤيدين لتحرك حماس يومذاك بعيدًا عن تفاصيله غير الموضّحة حتى اليوم، بأن الضغط على شعب بملايينه في شريط قاحلٍ من الرمال طوال 17 عامًا لا يمكن إلى أن يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه عند انفجار القيد واندحار الجدار. وبعيدًا عن تبرير الموت والسعي اليه، يمكن لأصحاب العقلية التحليلية، حتى من الحياديين السلبيين، أن يتفهّموا ما جرى دون أن يتبنوه ويفرحوا به بالضرورة.
كما سعى بعض هؤلاء لتبني مفردات بذيئة في وصف المقاتلين الفلسطينيين (مثل جرذان الأنفاق)، تنمّ عن رغبتهم المرضية في المزايدة على الخطاب الرسمي في الغرب. وهم في الوقت نفسه يتناسون أو يتجاهلون موجات الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت شوارع الغرب ودفعت بالكثير من مسؤوليه إلى إعادة النظر في تأييدهم المطلق لآلة الموت الإسرائيلية (فرنسا وألمانيا) أو حتى، شجّعت بعض المترددين من سياسييهم إلى إعلاء صوت الإدانة (بلجيكا واسبانيا) والتصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة على إصدار قرار غير ملزم يحثّ المعتدي الإسرائيلي على وقف إطلاق النار.
واليوم، تمرّ المنطقة العربية، خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في مرحلة توتر بين تيارات مؤيدة وأخرى منتقدة لما جرى في ذاك اليوم. ويبقى هذا التوتر صحيّا لطالما اكتفى بعرض وجهات نظر مختلفة في إطار إجماع على الحقوق الأساسية لشعب تعرّض للاحتلال الاستيطاني. وينحرف هذا التوتر سلبًا عندما يتحوّل أطرافه إلى مجموعة من الموتورين العصابيين الذين يمتطون صهوة التكفير أو التخوين أو الشتم للآخر المختلف معهم. وقد تطورت المواجهات إلى صراع تتنافس فيه المظلوميات الكثيرة في شرقنا البائس.
فعندما كان الوجع المباشر سوريًا، تضامن جميع المنتمين إلى صفوف الحقوق الإنسانية مع قضية الحرية والتخلص من الاستبداد الذي يعاني منه السوريون منذ عقود، منددين بكل آلات القتل والتعذيب التي أُعمِلت في الجسد السوري من جيوش محلية وقوى خارجية شاركت المستبد. أما الأقلية التي، وبسبب تحليلها القاصر والمستند على منطق غوغائي يغتصب مفاهيم القومية والتقدمية والعلمانية، أيّدت المستبد، فلقد نأت بنفسها عن أي تصنيف أخلاقي واكتفت بلعن الثورات. وكان الفلسطينيون هم أكثر من عرف بالألم السوري حيث عايشوه ووقعوا ضحايا له في ملجئهم السوري. كما أنهم اشمأزوا من وقاحة استغلال قضيتهم الوطنية من قبل مستبدين وفاسدين كانت لهم مساهمات دموية في وأدها منذ أيلول الأسود مرورا بتل الزعتر وعبورًا من حرب المخيمات في لبنان ووصولاً إلى تدمير مخيم اليرموك في سوريا. من غفل عن هذا كله وظل معتمدًا السردية الهلامية التي تتحدث عن الصمود والتصدي، سرعان ما اكتشف زيف هذا الخطاب عندما هاجمت قوى “المقاولة” حلبا في اقصى شمال سوريا مدّعية أنها تتجه إلى القدس.
بالمقابل، فأهل الغوطة ودرعا وحمص وحلب وسواها من الأراضي السورية المدمرة، يعرفون تمامًا ما يعانيه أهل غزة قبل وبعد 7 تشرين الأول / أكتوبر، وليسوا بحاجة لمن يضع لهم النقاط على الحروف. لكنهم، مؤمنون بأن دعمهم لشعب غزة لا يوجب عليهم في حال من الأحوال أن ينسوا ما اقترفته القوى الرديفة لاستبداد حكامهم بحجة انها تدّعي مساندة الفلسطينيين. فليفعلوا ما شاءوا ما دام هذا التصرف يريح ضمائرهم ويجعلهم يشترون قطعة ضيقة من الغفران الإلهي. أما الغفران الإنساني، فيرتبط أولا وأخيرًا بالمحاسبة وبالقصاص، أي بتحقيق العدالة.
“المدن”