لم يكد الاجتماع العربي- الروسي في مدينة مراكش المغربية ينهي أعماله حتى قامت قيامة القيادة السياسية الإيرانية ضده، فشنت حملة على البلدان العربية المشاركة واتهمت موسكو بالتدخل في شؤونها، بل والاعتداء على سيادتها.
كان السبب المباشر والمعلن للاستياء الإيراني تكرار البيان العربي الروسي لمواقف متخذة سابقاً في شأن الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران في الخليج العربي: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى.
لم يحرض البيان على الصدام ولم يتضمن أي إساءات تجعل الإيرانيين يخرجون عن طورهم، فقط جدد الكلام على “دعم كافة الجهود السلمية بما فيها المبادرات الرامية إلى التوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث وفقاً لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ومن خلال المفاوضات الثنائية أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية إذا اتفقت الأطراف المعنية”.
ليست المرة الأولى التي يصدر فيها مثل هذا الموقف الذي يعبر عن تضامن عربي وإقليمي ودولي مع دولة الإمارات العربية في مطالبتها بجزرها الثلاث التي حولتها إيران منذ ضمها في عام 1971 إلى قواعد عسكرية في قلب الخليج.
وليست المرة الأولى التي ترد فيها إيران برفض أي بحث في الموضوع، فالنظام الحاكم في طهران لا يقف فقط عند حدود احتلال الجزر الإماراتية، بل هو يثير المشكلات حول تسمية الخليج الذي يحتويها، وكل دولة أو مؤسسة تستعمل في أدبياتها تعبير الخليج العربي ستتعرض فوراً لاحتجاج مسؤولين إيرانيين لا ينفكون في المقابل يطالبون بالبحرين كجزء تابع “تخلى عنه الشاه”!
تتبجح إيران بأنها أصبحت جزءاً من الواقع السياسي في المشرق العربي واليمن، الجزر الثلاث لم تعد سوى عنوان بسيط في نهج التوسع الإيراني الذي لم يجد طوال العقود الماضية من يكبحه.
وفي تصريحات له أمام جمع من الطلاب الإيرانيين بعد ثلاثة أسابيع على اندلاع حرب غزة أعلن حسين شريعتمداري الذي يعتبر مستشاراً للمرشد الإيراني علي خامنئي أن بلاده موجودة في غزة وهي لا تزال فيها، وزاد على ذلك “نحن موجودون في غزة ولبنان واليمن والعراق وسوريا، لذلك لم نترك المسرح لندخله مرة أخرى”.
شريعتمداري نفسه تولى الرد في افتتاحية صحيفة “كيهان” الناطقة بلسان خامنئي على بيان المنتدى العربي الروسي، معبراً عن كره عميق للعرب لا يوازيه سوى حقد دفين ضد روسيا.
قال المقرب من المرشد، إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “خائن ومنافق”، مضيفاً أن أحداً “لا يتوقع من الدول العربية المشاركة في الاجتماع سوى العداء لإيران والتعاون مع النظام الصهيوني، لكن على الحكومة الروسية أن تتحمل مسؤولية تصرفاتها غير القانونية ضد الجمهورية الإسلامية”، وطالبها باعتذار رسمي وعلني لأن اجتماع المغرب “جاء للتغطية على جرائم إسرائيل”!!
سبق مستشار خامنئي للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي رئيس تحرير صحيفة “المرشد” في هجومه على الروس والعرب. قال في توصيف لقاء مراكش مستخفاً بالمشاركة أنه جرى “بحضور بعض العرب الذين لا يهتمون بمصير الفلسطينيين وخبراء روس (!) وأصدروا بياناً فيه كثير من الإشكالات وأهمها التدخل في شؤون إيران”.
بدا الكلام موجهاً للجميع، وفيه خصوصاً استخفاف بالروس، فإيران بحسب ولايتي ليست مسؤولة عن “التصرفات غير المهنية وغير المنطقية والتدخلية للدول الأخرى”، لكنها تذكر بأن “الدول المنخرطة في صراعات سياسية يجب أن تكون أكثر حذراً في مواقفها تجاه إيران”.
يمضي مستشار المرشد الدولي إلى القول إن “اتخاذ بعض المواقف من قبل وزارة الخارجية الروسية مدعاة للأسف على رغم أن الضغوط السياسية تدفع روسيا إلى الإضرار بسمعتها من أجل الحصول على امتيازات قليلة القيمة وبعيدة المنال”.
ليست المرة الأولى التي تحتج فيها إيران على موقف روسيا انطلاقاً من تبني موسكو الإجماع العربي في خصوص الجزر الثلاث. في يوليو (تموز) الماضي فعلت الشيء نفسه إثر صدور البيان المشترك عن اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي الست مع روسيا في موسكو، واستدعت السفير الروسي لديها لتبلغه احتجاجها. وهي فعلت الشيء نفسه مع الصين في أعقاب تبني القمة العربية- الصينية الموقف العربي من الجزر.
لكن غضبها الكبير بعد اجتماع المغرب يمكن أن نجد أسبابه في قضايا أوسع من مسألة الخلاف الإماراتي- الإيراني وتحديداً في إحساس إيران بالتهميش منذ اندلاع حرب غزة فيما يتقدم الموقف العربي بثبات ليتجسد في بيان قمة الرياض العربية الإسلامية وفي شبكة العلاقات الدولية الثابتة التي تطورها المجموعة العربية خصوصاً الدول الخليجية، بما في ذلك مع روسيا والصين، إضافة إلى علاقاتها التاريخية مع الغرب.
لقد اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقوم بزيارته إلى السعودية والإمارات عشية موعد كان أعطاه لاستقبال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في موسكو في اليوم التالي. في العالم اعتبرت الزيارة نجاحاً لنهج الدولتين الخليجيتين في تنويع العلاقات والصداقات، وخرقاً من جانب بوتين لحصار فرضه عليه الغرب وفرته له دول عربية، وليس إيران أو الصين أو كوريا الشمالية.
لقد كان مشهداً مثيراً أن ترسم طائرات “أف 16” الإماراتية، الأميركية الصنع، صورة العلم الروسي في سماء الإمارات فيما تهبط في مطار أبوظبي أربع طائرات حربية روسية من نوع “سو 35” رافقت الطائرة الرئاسية الروسية من موسكو.
ليس ذلك المشهد، ولا مشهد اللقاء الودي بين بوتين وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مما يسر القيادة في إيران، ولا حديث الضيف ومضيفيه عن توطيد العلاقات وتنامي حجم التبادل التجاري المطرد الاتساع، كما لا يسرها التقارب في المواقف السياسية والحرص على أن تلعب روسيا دوراً إيجابياً في أزمات المنطقة.
كانت تلك الزيارة سبباً في إثارة الشكوك الإيرانية تجاه موسكو، وهي شكوك مكبوتة منذ زمن في سوريا حيث شن الطيران الإسرائيلي مئات الغارات على مواقع إيران وميليشياتها، بينها أكثر من 30 غارة منذ السابع من أكتوبر الماضي من دون أي اعتراض روسي.
سبب ثالث للاستياء الإيراني هو بيان المغرب في نقاطه المتعلقة بغزة وارتداداتها. البيان شدد على وقف إطلاق النار وطالب “بإعادة الحياة لطبيعتها في قطاع غزة ورفع الحصار الإسرائيلي عن القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية”.
وأكد لافروف قبل ذلك أنه “بالتنسيق مع شركائنا وبخاصة العرب، نواصل الجهود من أجل استقرار الوضع على المدى الطويل ونقل العمل في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني إلى المستوى الدبلوماسي والسياسي”، وهذا ما ترفضه إيران التي جدد مرشدها القول نهاية الأسبوع الماضي “باجتثاث” إسرائيل في أقرب وقت.
قبل الحرب طورت روسيا علاقاتها مع مختلف الفصائل الفلسطينية، وبعدها استقبلت وفداً من “حماس” في موسكو، و”كرَّمت” الحركة بوتين بإطلاق سراح رهائن روس احتجزتهم في “طوفان الأقصى”. وفي المقلب الآخر احتفظت روسيا بعلاقتها الوطيدة مع إسرائيل، واغتنمت فرصة الانحياز الأميركي الكامل إليها لتعيد طرح حل الدولتين، ولتحذر على لسان لافروف أمام منتدى المغرب من أن “هناك مصادر تقول إن شركاءنا في الغرب يحاولون أن يطوروا مشاريع مخفية لفصل الضفة عن غزة”.
الانسجام الملحوظ في المواقف من القضية الفلسطينية ورفض التدخل في الشؤون الداخلية في البند المتعلق بالعلاقات الإيرانية- العربية، ثم إدانة “التعرض للملاحة البحرية”، كانت كافية لتشعر إيران بأن “ما تبذله من جهود” لوضع نفسها في موقع إدارة الصراع وحله لم يجدِ، فحرب السفن زادت في عزلتها وحروب محور المقاومة بالوكالة من لبنان إلى العراق واليمن لم تجعلها طرفاً على طاولة المفاوضات.
لقد فتحت حرب غزة الباب أمام روسيا للحضور كشريك إيجابي، فيما أقفلت الحرب على إيران وشددت عليها الخناق كمتهم في إثارة المتاعب خارج حدودها. لم تتمكن، ولم يشركها أحد في مفاوضات الدوحة من أجل التبادل بين “حماس” وإسرائيل، وبعد رعايتها حركة الحوثيين في البحر الأحمر، تبحث الآن عن دور “لضمان أمن البحار”.
أحد المحللين الإيرانيين كشف عن أن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان قد يزور الدوحة “للمشاركة في المفاوضات” وعرض “مساعدة إيران” إلا أن شيئاً من ذلك لم يتبلور، فالعالم لا يبدو مستعداً لقبول إيران شريكاً، لا في فلسطين ولا في باب المندب، فهي بالنسبة إليه سبب في الأزمة لا شريكاً في الحل.
تراكمت المصاعب في وجه الحاكم الإيراني، فكانت قصة الجزر الشعرة التي قصمت ظهر البعير. فجأة تحول لافروف “الخائن” وروسيا إلى دولة غير موثوقة ولا تستجيب إلى مقتضيات الشراكة الاستراتيجية، لكن روسيا لم تتوقف طويلاً أمام “غضب الشريك” الفارسي.
في اليوم التالي لحملة ولايتي اتصل لافروف بعبداللهيان لمساءلته أو لتنبيهه، لكن البيان الروسي اكتفى بالقول إن لافروف ذكَّر نظيره في طهران بتنفيذ “الاتفاقات التي تم التوصل إليها خلال زيارة رئيسي”، أما عبداللهيان فقد أعلن أنه بحث مع لافروف أوضاع القوقاز وغزة والعلاقات الثنائية. لم يقل عبداللهيان شيئاً في بيانه الأول، لكنه حرص في بيان لاحق على نقل حرص لافروف على “سيادة إيران على أراضيها”.
كان البيان الثاني، على الأرجح، تطميناً من اللهيان للمهتاجين في الداخل، أو ربما استجابة لمطلب روسي. الطرفان سيحرصان على علاقاتهما، لكن الجمر تحت الرماد، فلا يمكن لروسيا أن تبيع علاقاتها مع العالم العربي الشاسع لإرضاء نظام مشكوك به عربياً ودولياً وداخلياً، ولا يمكن للنظام الإيراني أن يتراجع، فهو يعرف أن تغيير نهج التدخلات الإقليمية سيعني سقوطه الحتمي.
“اندبندنت”