-
-
يبدأ الصحفي والكاتب التركي جنكيز تشاندار كتابه قطار الرافدين السريع باقتباسٍ لخوسيه ساراماغو: «لا أعتقد بالإلهام. ولا أعرف ما هو الإلهام… أول شروط الكتابة هو الجلوس، فنحن نكتب بعد أن نجلس»، مثلُ تشاندار، الذي قدّم لنا واحداً من أبرز الكتب حول القضية الكردية في تركيا والمشرق، عَلِمتُ بأنّ كتابة تقرير كامل عمّا جرى خلال الأيام القليلة الماضية، أمرٌ غير ممكن إلا إذا «جلست»، مجازاً على الأقل، فكانت عطلة نهاية العام – التي كان فريق الجمهورية سخيّاً معي فيها – الوقتَ الأنسب حتى أعود إلى دفتر ملاحظاتٍ كنت قد بدأت بتدوينها، إلى جانب اقتباساتٍ من مقابلاتٍ أجريتها عبر الهاتف مع مصادرَ داخل سوريا وخارجها، لتدوين ونقل أخبار ما يجري في البلاد خلال الأسابيع الفائتة. اكتشفتُ مع مباشرة العمل على هذا التقرير بأنّ دفتر الملاحظات الكبير نسبياً قد امتلأ، واضطررتُ لاستعارة دفتر جديد من ابنتي طالبة الصف الثاني الابتدائي، لكتابة بعض النقاط من مكالمةٍ جديدة.
المعلومات الواردة أدناه هي حصيلة عشرات المكالمات مع شخصيات سياسية سورية، وباحثين وسياسيين سوريين وعرب مطّلعين على الأجواء الدبلوماسية المتعلقة بسوريا، وعاملين في المجال الإنساني. تواصلتُ أيضاً مع شبّان سوريين شاركوا بعد انقطاع لسنوات كمقاتلين في معركة ردع العدوان، وتحدّثتُ مع قيادات في غرفة إدارة العمليات التي قادت المعارك، ومقرّبين من الفصائل؛ تناقشتُ مع زملاء صحفيين-ات ومراسلين-ات شاركوا بشجاعة منقطعة النظير في تغطية تطورات الأيام التي غيّرت وجه سوريا، وأعلنَت نهاية الأبد الأسدي بعد 54 عاماً، تواصلتُ مع أصدقاء ومصادر في حلب وحماة ودمشق، وفي الثامن من كانون الأول (ديسمبر) شاركتُ الدموع مع صديقي من دمشق عندما أُعلن خبر هروب بشار الأسد من البلاد، وسقوط نظامه.
عندما فكّرت بعنوان مناسب لهذا التقرير، الذي أريد أن أجمع فيه كل ما عرفته خلال سير المعارك أو حولها بعد أيام من انتهاء الأعمال العسكرية الرئيسية، خطر لي عنوان كتاب الصحفي الأميركي جون ريد عشرة أيام هزّت العالم، والذي كان في الأصل واحداً من أشهر الريبورتاجات الصحفية المعمقة الذي غطى فيه ريد أيام ثورة أكتوبر في روسيا، لكنني تراجعتُ فوراً عن الأمر بعدما تذكّرت بأنّ الراحل مصطفى طلاس اختار عنواناً مستوحى منه لنشر كُتيّب ثلاثة أشهر هزّت سوريا، والذي كان جزءاً من مذكراته، ويتناول الفترة التي شهدت توتراً في البلاد إثر محاولة رفعت الانقلاب على أخيه حافظ الأسد. لنذير فنصة أيضاً كتابٌ بعنوان مشابه عن أيام الانقلاب الأول في تاريخ سوريا الحديث، والذي نفّذه عديله حسني الزعيم، 137 يوماً هزّت سوريا، وعلى الرغم من أنّ الأيام التي سأتحدّثُ عنها في هذا التقرير حملت أثراً يفوق ما جرى الحديث عنه في تلك الكتب، كما أظن، إلّا أنّني اخترت عنواناً آخر في نهاية الأمر.
كان العون الذي حصلت عليه من زميلاتي وزملائي في الجمهورية حاسماً في قدرتي على الإحاطة الكاملة بكل تلك التفاصيل الهائلة التي حصلت خلال أيام قليلة، كما كانت النقاشات التي أجريناها حول موقفنا من تلك المعارك عندما بدأت، والمراجعة الحذرة لمسألة الانخراط الكامل في تغطية الأحداث العسكرية في سوريا بعد سنوات على توقفها وطرق التعامل معها، عاملاً هامّاً في الوصول إلى تصوُّر تحريري لم يكن العمل ممكناً دونه، وهو ما سيصبح مفيداً لي أيضاً خلال كتابة هذا المقال.
*****
كنتُ قادراً على سماع صوت شُربِه للشاي أثناء المكالمة، اعتذرَ موضّحاً أنّ هذه الفرصة الأولى التي أتيحت له منذ أيام للتواصل معي، وقد خصص وقت استراحته الوحيدة خلال اليوم ليُجيب على أسئلتي بخصوص الوضع الحالي في سوريا، وأسئلة أخرى تعود لبداية التحضير لعملية ردع العدوان، باشرتُ بسؤاله عن اللحظة التي بدأوا فيها الإعداد للمعركة، كنت أتخيّل إطاراً زمنياً لا يزيد عن عام، لكنه أجاب دون تردد: «منذ توقّف إطلاق النار في آذار (مارس) عام 2020». كان أحمد دالاتي، نائب قائد حركة أحرار الشام وعضو غرفة إدارة العمليات، والذي عُيّن مؤخراً نائباً لمحافظ ريف دمشق، يتحدّث عن تاريخ انتهاء المعارك التي بدأها نظام بشار الأسد بدعمٍ روسي وإيراني شتاء 2019، واستطاع من خلالها السيطرة على مساحاتٍ واسعة «كانت ذات لون أخضر»، أي أنّها كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية. خسرت الفصائل في ذلك الوقت قرىً وبلدات ومدنَ مهمة، مثل سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون، وذلك تحت وطأةِ نيران الطائرات الروسية وتقدُّم قوات نظام الأسد على الأرض، مدعومةً بميليشيات إيرانية وبمقاتلي حزب الله اللبناني. شكّلت تلك الهزيمة استكمالاً لمسار من التراجع العسكري منذ نهاية عام 2016، مع خسارة المعارضة السورية لوجودها في أحياء مدينة حلب الشرقية، ومن ثمّ الغوطة الشرقية قرب دمشق، وكل وجودهم في محافظة درعا جنوب البلاد وريف حمص الشمالي في عام 2018.
لم تعد فصائل المعارضة السورية تسيطر سِوَى على شريط ضيّق بالقرب من الحدود التركية، وأصبح شمال غرب سوريا يعجُّ بنازحين قادمين من مختلف أنحاء البلاد، هرباً من بطش نظام بشار الأسد.
يُكمل أحمد دالاتي حديثه بالإشارة إلى اجتماعاتٍ عقدتها جميع الفصائل في المنطقة على الفور، لمحاولة الخروج بعِبَر ونتائج من تلك الهزيمة التي تعرّضت لها، وكيف اتّخذت قراراً بتشكيل قيادة عسكرية موحدة، ولكن قبل ذلك إنشاء «كليّات عسكرية وفق الأصول العسكرية المتبعة في العالم»، يبدو أنّ الفصائل التي وُلِدت كمجموعات مقاومة محلية أو خلايا لتيارات إسلامية جهادية قد قررت عند تلك اللحظة، التحول إلى جيش نظامي لا ميليشيا. وقد كانت بالفعل مشاهد ناقلات الجند التي تأخذ الشبّان المتطوعين إلى المعركة، بعد 27 نوفمبر، تعطي انطباعاً مؤيداً لذلك.
مصدر مقرب من غرفة العمليات قال لي، خلال حديث أجريته معه بعد تحرير مدينة حلب بيومين، إنّ النيّة لبدء المعركة كانت قد عُقدت قبل عامٍ من الآن، لكنّ ضغوطاً تركية أخَّرَتَها. وأكّدت عدّة مصادر أخرى، من بينها سياسيين سوريين مطّلعين على مسار الأحداث، معلومةَ الضغوط التركية وعدم رغبة أنقرة باندلاع تصعيد عسكري جديد في المنطقة، وسط مخاوف من تحوّل النازحين الذين يزيدون على الثلاثة ملايين شمال غرب سوريا إلى لاجئين وافدين إلى أراضيها. وربما خوفاً من سيناريو مشابه لما حدث في غزّة بعد عملية 7 أكتوبر.
لا يمكنني تحديد اللحظة التي اتُّخذ فيها القرار بشكلٍ نهائي، لكنّ مصدرين، أحدهما شارك في العمليات العسكرية والآخر مُقرّب من غرفة العمليات، أكدا لصالح هذا التقرير بأنّ غرفة العمليات أرسلت وحدات من النخبة إلى مدينة حلب سراً، وجرى تحضيرهم لإجراء عمليات اغتيال واستهداف لمواقع عسكرية وأمنية عند بدء المعركة. قبل ستّة أشهر من انطلاق ردع العدوان، كان عددهم بحسب المصدر الأول 800 عنصر، وقد استطاعوا بالفعل عند اقتراب قوات ردع العدوان من مدينة حلب القيامَ بتفجير اجتماع يضم قيادات أمنية وعسكرية، واستهداف مواقع أمنية وتنفيذ اغتيالات لعدد من قيادات قوات نظام الأسد في مدينة حلب، يقول مصدري: «عندما دخلنا مدينة حلب كانت قد تحررت منذ ساعتين». مشيراً إلى انهيار قوات نظام الأسد على وقع الضربات التي أتتهم من خلف الخطوط، لكن أيضاً بسبب استراتيجية الحرب الخاطفة التي تمّ تطبيقها عبر التقدم بسرعة على محور رئيسي، تحت غطاء جوي وفرته مسيرات شاهين، ومن ثمّ التقدم على عدّة محاور أخرى لتشتيت قدرات الطيران الروسي.
تحدّث أحمد الشرع، كان يشار إليه باسم أبو محمد الجولاني في ذلك الوقت، في عدد من اللقاءات العامة والخاصة، عن التحضير للمعركة قبل عام من بدء ردع العدوان. وخلال نقاشات حول العمل، أشار زميلي الصحفي علي دالاتي إلى حضوره عدّة لقاءات مع حكومة الإنقاذ التي جرى فيها الحديث من قبل وزراء ومسؤولين عن اقتراب موعد المعركة، وذلك قبل أشهر قليلة من 27 تشرين الثاني (نوفمبر).
قبل شروق شمس يوم الأربعاء 27 نوفمبر، انطلقت مدافع غرفة إدارة العمليات، التي كان لا يزال يشار إليها باسم غرفة الفتح المبين، وبدأ مقاتلوها بالتقدم نحو خطوط التماس معلنين بدء معركة ردع العدوان.
غرفة الفتح المبين هو اسمٌ استُخدم للمرة الأولى عام 2019 خلال المعارك مع قوات نظام بشار الأسد. هذه المظلة كانت تطوراً لغرفة فتح دمشق التي أُعلِن عنها خلال المعارك التي استطاعت بعدها فصائل المعارضة السورية من السيطرة على مدينة إدلب، وطرد قوات النظام منها إلى جانب جسر الشغور وأريحا عام 2015، كانت تلك المرحلة واحدة من أبرز اللحظات التي شعر فيها بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون بتخوّفٍ من انهيار نظامه، ما استدعى قيام القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بزيارته الشهيرة إلى موسكو ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طالباً العون الروسي في سوريا، وهو ما حدث فعلاً نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 2015، وكان ذلك شرارة البداية لسيطرة نظام الأسد مجدداً على مساحات واسعة من البلاد كان قد خسرها منذ العام 2012.
لم تكن العلاقة بين الفصائل المكوِّنة لغرفة الفتح المبين جيدة دوماً، فقد شهدت منطقة شمال غرب سوريا عدداً من المعارك الدموية بين فصائل المعارضة، أدت في النهاية إلى سيطرة شبه كاملة لهيئة تحرير الشام – وريثة جبهة فتح الشام أو جبهة النصرة سابقاً – على منطقة إدلب وريف حلب الغربي، بينما بقيت مناطق عفرين وريف حلب الشمالي تحت سيطرة فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا، والتي سيطرت على المنطقة بعد عمليتي درع الفرات ضد تنظيم داعش نهاية عام 2016، وغصن الزيتون ضد قوات سوريا الديمقراطية عام 2018.
وعلى الرغم من استمرار وجود غرفة الفتح، كان النفوذ يميل عملياً لصالح هيئة تحرير الشام التي يقودها أبو محمد الجولاني، ومع ثبات سلطته وتشكيل حكومة الإنقاذ التابعة له بشكل غير رسمي، تراجعت حدّة الصدامات في المنطقة، وإن بقيت حالة من التنافس التي يدعمها الجولاني ضمن الفصائل الأساسية، مثل التنافس بين القيادات في حركة أحرار الشام على المنصب الأول، والذي أدى إلى صدامات محدودة وشقاقات، جرى تجاوزها مع الوقت.
بعد ساعات قليلة من بدء المعركة، أعلنت غرفة العمليات عن اسمها الجديد، وعن توحّد كامل الفصائل ضمنها للقيام بعمل عسكري ضد قوات النظام، التي كانت قد عادت إلى قصف شمال غرب سوريا بشكل مكثّف منذ أشهر، ما تسبب في وقوع عشرات الضحايا وتدمير منشآت مدنية وحيوية في المنطقة.
بحلول الساعة الثانية وخمسٌ وخمسون دقيقة من بعد ظهر يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني (نوفمبر)، صدر تسجيلٌ مصور للرائد حسن عبد الغني، الناطق باسم غرفة إدارة العمليات، تحدّث فيه عن واجب الفصائل بردع عدوان قوات النظام عن المدنيين، و«استرداد الكرامة».
قبل يوم من بدء العمليات، كنتُ قد سجلت حواراً مطولاً مع ممثل الأمم المتحدة المقيم في دمشق، آدم عبد المولى، حول «استراتيجية التعافي المبكر»، وهي خطة لتمويل مشاريع تنموية كان قد أُعلن عنها قبل أيام. على الرغم من توارد أنباء عن إمكانية اندلاع معارك شمال غرب البلاد، لم نكن (نحن هيئة تحرير موقع الجمهورية) نضعُ في الحسبان قرب بداية العملية ونطاقها الواسع، لتتغير الخطة التحريرية بالكامل خلال أقل من 24 ساعة على انطلاق ردع العدوان، لصالح التحليلات الميدانية والسياسية لمجريات المعركة وخرائط النفوذ الجديدة.
لم تترك لنا التطورات الكثيرَ من المساحة للتفكير والتحليل، فقد استطاعت فصائل ردع العدوان السيطرة على مدينة حلب بعد يومين من انطلاق المعركة فقط، وسط انهيار كبير لقوات الأسد في ريف حلب الغربي والجنوبي، أدت تلك التطورات إلى صدمة واسعة في مجتمع الناشطين والعاملين في الشأن العام، خاصةً المنحدرين من مدينة حلب. جرى ترتيب اتصالات سريعة استفدتُ منها مباشرةً، وقررنا أنا وزميلي كرم نشار في اجتماع مساء يوم الأحد العملَ على نموذج جديد للتغطية لمواكبة تلك الأحداث المتسارعة، كانت الأخبار تخرق جدار الصوت في عقلي، بدأت استعادة اتصالي بعدد كبير من الأشخاص الذين عرفتهم وعملت معهم في المنطقة، إذ كان قد سبق وأن زرت المناطق الشرقية المحررة من مدينة حلب عام 2014، لتدريب ناشطين ومراسلين على العمل الصحفي.
من خلال معارف مشتركين تمكّنتُ من التواصل مع المهندس فؤاد مبيض، والذي كان أحد المشاركين الفاعلين في الحراك الثوري لمدينة حلب، لكنّه فضّل البقاء في المدينة، ونشط المهندس مبيض فور تحرير المدينة في التنسيق بين غرفة إدارة العمليات وإدارة المؤسسات التي تقدم الخدمات الرئيسية مثل المياه والكهرباء، استطعتُ الحصول على تصور كامل منه عن الوضع الخدمي في المدينة بعد 48 ساعة على طرد نظام الأسد منها، وأشار المهندس فؤاد المبيض إلى أنّ غرفة إدارة العمليات كانت قد جهّزت كوادر فنية من مهندسين وعاملين في القطاع الخدمي، للدخول الفوري إلى المؤسسات وتسيير أمورها وتغطية أي غياب فيها، وهو ما حصل بالفعل، ما أدى إلى أن تكون عملية انتقال السيطرة على المدينة بأقل خسائر ممكنة بما يخص احتياجات السكّان الأساسية.
في اليوم التالي، وخلال حديث مع شخص مقرب من غرفة إدارة العمليات، قال إنّ التحضيرات لإدارة مدينة حلب قد بدأت منذ أشهر، وإنّ هناك مبنىً كان مخصصاً في أحد وزارات حكومة الإنقاذ للموظفين الذي يجري تجهيزهم لإدارة المدينة بعد تحريرها، مصدرٌ آخر مطلع على سير العمليات أفاد بأنّ الخطط كانت تركز في المرحلة الأولى على ريف حلب الغربي، ومن ثمّ على مدينة حلب، إذ سيشكّل تحرير المدينة نصراً عسكرياً وسياسياً كبيراً على النظام، يعدّل كفة الهزائم السابقة، ويضع فصائل المعارضة في موقف تفاوضي أفضل مستقبلاً، لكنّ انهيار قوات النظام سريعاً في ريف حلب الغربي، أدى إلى تطوير الهجوم فوراً نحو مدينة حلب.
على جبهات ريف إدلب الشرقي والجنوبي التي بدأت بعد يوم من انطلاق المعركة، كان انهيار قوات الأسد وانسحابهم بشكل سريع، يغذي الرغبة القديمة لدى قطاع كبير من المقاتلين المنحدرين من مدينة حماة للتقدم نحو المدينة وتحريرها، وهي ضغوط بدأت منذ تحرير مدينة إدلب على يد غرفة «الفتح» عام 2015.
مصدر مطّلع على الاتصالات التي جرت بين تركيا وغرفة إدارة العمليات، صرّح لنا قبل بدء تقدم القوات إلى حماة، بأنّ تركيا ضغطت من أجل وقف المعارك، لم تكن تريد تطور الأمور إلى درجة تستدعي دخول ميليشيات إيرانية مجدداً إلى سوريا، وهي مخاوف عززها طلب نظام الأسد رسمياً العونَ من العراق، وانتشار شائعات عن تحضير مقاتلين من الميليشيات العراقية للقدوم إلى سوريا والاشتراك إلى جانب قوات نظام الأسد في المعركة.
مساء الثالث من كانون الأول (ديسمبر)، أرسلتُ رسالة إلى المقاتل الذي عاد إلى المشاركة في عملية ردع العدوان بعد انقطاع لسنوات عن العمل العسكري، رد علي برسالة عبر تطبيق واتساب «على أبواب حماة»، فوجئت بسرعة تطوّر الهجوم، لقد سقطت دفاعات النظام بالفعل في ريف حماة الشمالي، وكان التقدم إليها بعد تحرير كامل محافظة إدلب تطوراً منطقياً للمراقب المهتم بالتفاصيل الميدانية، لكنّ تطوير المعركة ومهاجمة مدينة حماة، كان أشبه بالخيال بالنسبة لي، بعدها سيصبح وسط سوريا مفتوحاً أمام تحرك فصائل المعارضة، وستستطيع توجيه ضربات موجعة لنظام الأسد في مواقع مهمة للغاية، هذا عدا عن وجود طريق يعبر من البادية ويتجاوز حمص يصل بين حماة ودمشق نفسها.
كانت الميليشيات التابعة لإيران قد تعرّضت على مدى العام الماضي لضربات جويّة واسعة من الطيران الإسرائيلي، وطيران التحالف الدولي في منطقة الجزيرة شرق البلاد، كما تعرض حزب الله لهزيمة كبيرة بعد استهداف معظم قيادات الصف الأول والثاني، وقصف مواقع أسلحته في لبنان. ترك ذلك أثراً كبيراً على قدرة تلك الميليشيات على الحركة وحشد قواتها، وأدى هذا الضغط العسكري إلى انسحابها من مواقع عديدة في سوريا، لم يكن هذا واضحاً للجميع بشكل مسبق، ولكنّ معركة ردع العدوان بدأت وسوريا شبه فارغة من المقاتلين الموالين لإيران.
صباح الخامس من ديسمبر، تحدّثتُ مع المصدر ذاته، والذي وضّح أنّهم استطاعوا في الليلة الماضية السيطرة على 80 بالمئة من جبل زين العابدين، الذي يتضمن أقوى تحصينات لقوات النظام شمال مدينة حماة، لكنّ القصف المكثف، والذي شاركت فيه كل القوات الروسية الموجودة في سوريا، بما في ذلك القطعات البحرية التي قصفت بالصواريخ مواقع فصائل المعارضة على خطوط الجبهة، أدت إلى تراجعهم من مواقعهم شمال حماة.
كانت الأخبار في الليلة السابقة، تأتي من اللاذقية وطرطوس عن سماع دوي انفجارات ضخمة، خاف السكّان هناك من أن تكون انفجارات ناجمة عن قصفٍ إسرائيلي، لكنّها كانت في الحقيقة أصوات مدافع البوارج الروسية الراسية قبالة السواحل السورية بالقرب من مدينة طرطوس.
قبيل اقتراب فصائل ردع العدوان من حدود مدينة حماة، قام بشار الأسد باستدعاء العميد سهيل الحسن ليقود قواته التي عمل معها طويلاً في الفرقة 25 مهام خاصة من جديد، تضم تلك القوات مجموعات نخبة يطلق عليها مجموعات الطراميح، وهي مجموعات ميليشياوية بالأساس ينتمي معظم مقاتليها إلى قرية قمحانة شمال مدينة حماة (معظم سكّانها من المسلمين السنّة)، وكان اسم الفرقة 25 مهام خاصة قد أطلق على مظلة من الميليشيات تابعة بالأصل للمخابرات الجوية، والتي كان الحسن ضابطاً فيها قبل عام 2011، ساهمت الفرقة 25 مهام خاصة في تحقيق انتصارات عسكرية عديدة لصالح نظام الأسد، وجرى دعمها ورعايتها هي وقائدها العميد سهيل الحسن من موسكو بشكل مباشر. لكنّ نظام الأسد الذي لا يمكنه تحمّل سطوع نجم أي ضابط أو شخصية تعمل لديه، أزاح في شهر نيسان (أبريل) 2024 الحسن من منصبه وعيّنه كقائد للقوات الخاصة، وهو نوع من الإبعاد كان النظام يتبعه طوال سنوات وجوده ويسمى «التسريح لفوق»، أي تعيين الضابط أو المسؤول في موقع أعلى نظرياً، لكن دون صلاحيات أو بعيداً عن مواقع علاقاته التي شكّلها خلال تسلمه لمنصبه السابق، ما يُفقده دوره ونفوذه.
نقلت وسائل الإعلام التابعة لنظام الأسد صور الحسن وهو يقود مجموعات الطراميح، وقد أظهرت تسجيلات مصورة، نشرتها حسابات مرتبطة بتلك الميليشيات، اشتباكات عنيفة بينها وبين فصائل المعارضة السورية، وتركزت العمليات العسكرية ضد قوات الحسن في منطقة جبل زين العابدين الذي يحوي تحصينات عسكرية ضخمة، وحُشِدَت فيه نخبة قوات النظام من أجل إيقاف تقدم قوات ردع العدوان.
مساء الخامس من ديسمبر، وعلى الرغم من محاولاتهم في استيعاب الهجوم وصدّه، انهارت قوات نظام الأسد واستطاعت فصائل ردع العدوان دخول مدينة حماة والسيطرة عليها، بذلك كُسر أحد الحواجز المهمة أمام تقدم فصائل المعارضة السورية نحو وسط سوريا. اتصلتُ بمصدر مقرب من غرفة إدارة العمليات فقال لي: «بدأنا الطريق نحو دمشق»، علقّتُ بأنّهم لم يسيطروا على حمص بعد، فأخبرني أنّ ما تبقى من قوات قادرة على القتال لدى نظام الأسد قد كُسِرت وهزمت في حماة، وبأنّه لن يستطيع حشد قوات قادرة على صدّ تقدمهم السريع.
أشارت أنباء في تلك الليلة إلى أنّ الطائرات الروسية قصفت جسر الرستن، لقطع الطريق بين حماة وحمص، لكنّ القصف على ما يبدو لم يدمر الجسر، الذي يوجد أصلاً طُرقاً بديلة عنه.
وقبل ثلاثة أيام من تلك الليلة، طلبت إيران من روسيا وتركيا حضور اجتماع سريع لثلاثي أستانا، من أجل مناقشة التطورات الميدانية في سوريا، لعلّها تضغط سياسياً على أنقرة بالاشتراك مع موسكو لوقف العمليات العسكرية، وجرى الاتفاق على الاجتماع في قطر يوم السبت 7 كانون الأول (ديسمبر) على هامش منتدى الدوحة، كان انهيار النظام في حماة عاملاً رئيسياً في تخييب أمل حلفاء النظام الرئيسيين (روسيا وإيران)، وتراجعهم عن تقديم الدعم السياسي له في تلك اللحظة.
وفي الثاني من كانون الأول (ديسمبر)، كان رتلاً تابعاً لميليشيات عراقية موالية لإيران، قد تعرض لقصف من طائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، واعتُبر ذلك إغلاقاً للحدود بين سوريا والعراق، وتعبيراً عن موقف أميركي يمنع تدخل ميليشيات الحشد الشعبي لإنقاذ نظام بشار الأسد.
في اليوم التالي لتحرير مدينة حماة، قال وزير في حكومة الإنقاذ لمراسل صحفي إنّ الخدمات في المدينة ستحتاج لوقت أطول مما تحقق في حلب، لأنّ الخطط المسبقة التي كانت معدة لم تكن تتوقع التقدم أكثر من سراقب، فحتى معرة النعمان لم تكن من ضمن الخطط التي تمّ تحضيرها من الناحية الإدارية والخدمية.
واضطرت غرفة إدارة العمليات لاستدعاء مهندسيها وجزءاً من كبار الموظفين في مدينة حلب، وهو ما أدى إلى تراجع جودة الخدمات المقدمة في حلب بعد توسع رقعة المدن المحررة، وهو ما وثقتُهُ أيضاً من خلال اتصالات عديدة مع مصادر محلية في مدينة حلب.
كل الأدلة والتصريحات التي حصلنا عليها، أشارت إلى أنّ الخطط لم تكن تتوقع هذا التطور السريع للمعارك، أو التقدم نحو مدينة حماة ومن ثم حمص ودمشق. في حديثي معه قال أحمد دالاتي إنّ الخطط وُضِعَت من أجل الوصول إلى دمشق، لكن على مراحل.
لم يحصل المقاتل الذي كنتُ على تواصل معه على النوم بالشكل الكافي، إذ تقدّمت القوات بعد حماة نحو ريف حمص الشمالي على الفور، وكان مقاتلون محليون من بلدات تلبيسة والرستن قد طَردوا مفارز الأمن التابعة للنظام مسبقاً، وأصبحت فصائل ردع العدوان على مشارف مدينة حمص بحلول يوم الجمعة السادس من ديسمبر.
في اليوم التالي، كانت وجوه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عابسةً، بينما أظهر حقان فيدان وزير الخارجية التركي ارتياحاً واضحاً، عرضت طهران وموسكو تنازلات سياسية مقابل وقف المعارك، لكنّ الموقف الميداني كان قد تجاوز جميع تلك العروض، كانت معلوماتهم الاستخباراتية تقول إنّ وضع النظام أصبح ميؤوساً منه، ومن أجل الحفاظ على ما تبقى لهم من مصالح في البلاد، وافقت إيران وروسيا على اتفاق يتضمن رحيل بشار الأسد من سوريا، وجرى طلب اجتماع موسع لعرض الخطة والتأكد من قبول الدول العربية بها، ضمّ الاجتماع كل من السعودية ومصر وقطر والأردن والعراق، إلى جانب ثلاثي أستانا، لم يحضر لافروف الاجتماع، وحضر بدلاً عنه ألكسندر لافرنتييف، الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا.
حصلتُ على هذه المعلومات من مصدرين مطلعين على مجريات المشاورات الدبلوماسية في الدوحة، مساء اليوم الذي سقط فيه نظام الأسد، ونشرها موقع الجمهورية.نت صباح اليوم التالي.
تضمّن الاتفاق مجموعة من النقاط الرئيسية هي؛ ضمان الانتقال المُنظّم والسلس للسلطة، والحفاظ على المؤسسات الدبلوماسية وأمنها بالإضافة إلى المراقد المُقدَّسة حسب طلب إيران. والحفاظ على مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى منع عمليات الانتقام والاقتتال الأهلي، وتأمين السلاح الكيماوي والأسلحة الاستراتيجية، ومنع التعدي على القواعد العسكرية الروسية، وأخيراً الالتزام بالقرار 2254 في عملية التحول السياسي.
بعد التواصل مع غرفة إدارة العمليات، وافقت على تلك الشروط مقابل تسليم السلطة بشكل علني من قبل رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي، وبأنّ تقوم قيادة الجيش بالاتصال مع ضباطها وإبلاغهم بأنّ النظام قد سقط، وهو ما حدث.
قالت المصادر من الدوحة إنّ الدول لم تكن تتوقع هذا الانهيار السريع لنظام الأسد. كان هذا النظام على ما يبدو مجرد خيالات لنظام سلطوي حكم سوريا منذ 54 بعد الانقلاب الذي قاده والد بشار، حافظ الأسد، عام 1970، وأطاح فيه برفاقه في الحزب ليتسلّم الحُكم بشكل مباشر.
في الساعة السادسة وثمانية عشر دقيقة من صباح يوم الأحد الثامن من كانون الأول (ديسمبر)، نقلت وكالة رويترز عن مصادر مطلعة خبر هرب بشار الأسد خارج البلاد، وسقوط النظام السوري، سقط الأبد وبلا عودة.
أكتب هذه المقالة ولم يمضِ بعد شهرٌ على هذا الحدث الهائل في حياة جميع السوريين، ولم تتكشف بعد جميع تفاصيل تلك اللحظات، لكنّ ما حدث قد حدث فعلاً، علينا تذكير أنفسنا طوال الوقت، لم يكن ذاك حلماً، قد سقط الأبد فعلاً.
-