تستعد الحكومة السورية لإطلاق إصدار نقدي جديد مؤلف من ست فئات بعد حذف صفرين من العملة المتداولة، في محاولة للحد من التدهور النقدي وتسهيل التعاملات المالية اليومية، وتوضح الجهات الرسمية أن العملية ستنفذ استناداً إلى قانون مصرف سورية المركزي رقم 23 لعام 2002، بحيث تُطرح الأوراق الجديدة بكميات محدودة ومدروسة تتناسب مع حجم الاقتصاد المحلي.
وتصف الحكومة الخطوة بأنها مقدمة لمرحلة الإصلاح الاقتصادي واستعادة الثقة بالعملة الوطنية، في وقتٍ يبدي فيه خبراء الاقتصاد والمواطنون على حد سواء مخاوف من أن تبقى العملية في حدود التغيير الشكلي، من دون أن تمس جذور الأزمة الاقتصادية العميقة أو تضع حلولاً عملية للتضخم وضعف الإنتاج، وهو ما يجعل الشارع السوري يتعامل مع الخطوة بقدر من الترقب والحذر.
الأزمة أعمق من الشكل
يرى خبراء الاقتصاد أن تعافي الليرة السورية لا يتوقف على تغيير شكلها أو حذف أصفار منها، بل على إعادة بناء الاقتصاد الحقيقي في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات، فمشكلة الليرة، بحسب هؤلاء، ليست تقنية بحتة، بل مرتبطة باستعادة ثقة الناس بالعملة الوطنية، وهي ثقة لا يمكن ترميمها إلا عبر سياسات مالية مستقرة وإدارة فعالة للعجز والتضخم، وبالتالي، فإن أي إصلاح نقدي لن يكون كافياً ما لم ترافقه إصلاحات مالية ومصرفية عميقة تعالج جذور الأزمة، وتعيد الاعتبار لقيمة الإنتاج السوري في السوق المحلية والدولية.
قال الباحث الاقتصادي السوري يحيى السيد عمر لموقع تلفزيون سوريا إن استبدال الليرة السورية بعملة جديدة مؤلفة من ست فئات يُعد خطوة مهمة في إطار محاولة تحقيق الاستقرار المالي والنقدي، لافتاً إلى أن الخطوة لا تقتصر على “تغيير شكلي”، بل تهدف إلى تعزيز النظام النقدي وتسهيل التعاملات اليومية بعد التآكل الكبير في الفئات القديمة، وأوضح السيد عمر أن من شأن الإصدار الجديد تنظيم السوق وتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية، وهو ما قد يعزز من فرص استقرار الليرة السورية على المدى المتوسط، إذا ما أُدير ضمن خطة اقتصادية متكاملة.
آراء الناس
استطلع موقع تلفزيون سوريا آراء الأهالي في محافظة حلب، قال أبو فراس (تاجر مواد غذائية في حلب) لموقع تلفزيون سوريا: “نحن كتجار لا يهمنا شكل الورقة الجديدة بقدر ما نريد استقراراً في قيمتها، اليوم نشتري البضاعة بسعر، وغداً يتغير السعر قبل أن نبيعها، حذف صفرين لا يغير من الواقع ما لم تنخفض الأسعار ويثبت الدولار، المهم هو القوة الشرائية، وليس عدد الأصفار المطبوعة على الورقة”.
أما تيسير أحمد (تاجر من منطقة منبج) يرى أن الإجراء قد يكون مفيداً من ناحية تسهيل التعاملات النقدية، قال لموقع تلفزيون سوريا: “اليوم نحمل معنا رُزماً كبيرة من المال لدفع ثمن البضائع، وإذا تم حذف صفرين ستكون المعاملات أسهل، لكننا نخشى أن تُطبع كميات كبيرة من الليرة الجديدة وتزيد الأسعار أكثر، لأن المشكلة في السوق ليست في الورق بل في غياب الرقابة والسياسات الاقتصادية”.
وأبو قصي (تاجر أجهزة كهربائية في اعزاز) اعتبر أن الخطوة تحمل رسالة سياسية أكثر من اقتصادية، قال لموقع تلفزيون سوريا: “الحكومة تريد أن تظهر أنها تسيطر على الوضع النقدي، لكن من دون إنتاج وصناعة وتصدير، ستبقى الليرة ضعيفة، سواء حذفوا صفرين أو عشرة، كل تاجر اليوم يتعامل بالدولار أو الليرة التركية خوفاً من التذبذب، لأن الليرة فقدت الثقة”.
يضيف “تغيير العملة يحتاج وقتاً لتتأقلم الأسواق، والناس تخاف من أي إجراء جديد، التجار الكبار ربما يستفيدون، لكن أصحاب الدخل المحدود سيتضررون إذا ارتفعت الأسعار أو تأخر صرف العملة القديمة. نحن نريد شفافية وضمانات واضحة من البنك المركزي”.
تجارب خارجية
وأشار الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر إلى أن تجارب الدول في استبدال عملاتها قدّمت نتائج متباينة بين النجاح والإخفاق، ما يستدعي دراسة هذه التجارب بعمق للاستفادة من الإيجابيات وتجنّب السلبيات. وأوضح أن تركيا تُعد مثالاً ناجحاً في هذا المجال، إذ تمكنت من تحديث عملتها بفضل التخطيط المحكم والسياسات النقدية المدروسة، في حين واجهت دول أخرى تجارب صعبة أثّرت سلباً على استقرارها المالي نتيجة لغياب الرؤية الاقتصادية المتكاملة.
وأضاف السيد عمر أن مدى نجاح خطوة استبدال العملة في سوريا يعتمد على قدرة الحكومة على تطبيقها ضمن إطار من الشفافية والانضباط المالي، مع ضرورة تحقيق توازن دقيق بين العرض النقدي والطلب في السوق، لتفادي أي ضغوط تضخمية أو خلل في دورة المال، وشدد على أن تغيير العملة ليس حلاً سحرياً لتحسين الاقتصاد، بل هو إجراء تقني يجب أن يرافقه إصلاح حقيقي في بنية الاقتصاد. وأوضح أن النجاح مرهون بتوفير شروط أساسية أبرزها السيطرة على التضخم وتحفيز الإنتاج والتصدير، لأن غياب هذه الشروط قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويعيد الليرة إلى التراجع مجدداً، مما يشكل صدمة نقدية جديدة.
الكلفة والانعكاسات
وبين السيد عمر أن كلفة طباعة الإصدار الجديد تشكّل عاملاً مهماً يجب التعامل معه بحذر، إذ يتوقع أن تتراوح الكلفة الإجمالية بين مئات الملايين من الدولارات بحسب حجم الإصدار المخطط له، مشيراً إلى أن كلفة الورقة الواحدة تُقدَّر بنحو 20 سنتاً أميركياً. وأكد أن هذا الإنفاق الكبير يجب أن يكون جزءاً من خطة مالية واضحة تضمن استقرار العملة وتمنع أي أثر تضخمي محتمل.
وأضاف أن استبدال العملة سينعكس على القوة الشرائية للمواطنين بشكل مباشر وغير مباشر، إذ ستُسهّل الفئات الجديدة عمليات التداول وتحدّ من أزمة السيولة النقدية، مما يمنح المستهلكين مرونة وراحة أكبر في تعاملاتهم اليومية، وعلى الصعيد التجاري، يرى السيد عمر أن الخطوة يمكن أن تسهم في تبسيط المعاملات وتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية، بما يحدّ من ظاهرة “الدولرة” التي أثّرت سلباً على الاقتصاد السوري، لكنه أكد في الوقت ذاته أن الأثر الحقيقي على العلاقات المالية الخارجية سيبقى مرتبطاً بمدى انفتاح النظام المصرفي وتوافر التسهيلات المالية والتجارية التي تشجع على الاستثمار وتنعش حركة السوق.
ويرى مراقبون أن هذه الكلفة المرتفعة تُحتّم وجود خطة واضحة لاستثمار الإنفاق ضمن استراتيجية استقرار نقدي، حتى لا تتحول العملية إلى عبء إضافي على الموازنة العامة وتغذي معدلات التضخم مجدداً، ومن المتوقع أن تؤدي الفئات الجديدة إلى تسهيل عمليات التداول وتقليل أزمة السيولة النقدية التي يعاني منها المواطنون، ما يمنحهم مرونة أكبر في المعاملات اليومية.
في المحصلة، تبدو خطوة إصدار عملة جديدة محاولة جريئة لإعادة الثقة بالليرة السورية، لكنها في الوقت نفسه رهان محفوف بالمخاطر ما لم تترافق مع إصلاحات اقتصادية حقيقية، فالعملة ليست مجرد ورق جديد بل مرآة لواقع الاقتصاد، ولا يمكنها أن تستعيد قيمتها إلا حين يستعيد الاقتصاد السوري قدرته على الإنتاج، وحين يشعر المواطن أن أمواله محمية بقوة المؤسسات، لا بطلاء جديد على ورقة قديمة.
- تلفزيون سوريا


























