تُعدّ تركيا أكثر الأطراف الإقليمية على صلة بسورية، أولاً لجهتي الجغرافيا والتاريخ، فالحدود المشتركة تبلغ نحو ألف كيلومتر، والتشابكات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأمنية، جميعها عوامل تؤكد في كل امتحان، ومناسبة، صعوبة بناء دولة سورية جديدة، من دون أرضية من التفاهمات المشتركة بين البلدين الجارين. لم يصدر من فراغ تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال استقباله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على هامش أعمال الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي قال فيه: “هذا الذي أسقط بشار الأسد، وهذا الذي فاز في سورية”. وبعيداً عن مدى دقة هذا الكلام، الذي ردده ترامب عدة مرات، من دون أن يقابل برد من قبل حكام أنقرة ودمشق، فإن تركيا لعبت دوراً مهماً وأساسياً في محطات تطور الوضع السوري، منذ قيام الثورة ضد نظام بشار الأسد في عام 2011، وهذا ما أهّلها لامتلاك عدد من أوراق القوة، التي لا ينافسها فيها أحد، بقدر ما تشكل مصدر قوتها، وتحدد مدى حضورها في الشأن السوري، وتحديد اتجاهاته، بما فيها الداخلية على صعيد الملفات المعقدة، التي تنتظر حلولاً وتسويات صعبة، داخلية وخارجية، وفي كل منها لأنقرة كلمة فصل فيها.
الانتشار العسكري التركي في سورية
تتمثل الورقة الأولى بالحضور الأمني والعسكري والسياسي، حيث تملك تركيا قوات عسكرية، وأجهزة أمنية، يفوق تعدادها 25 ألفاً، تنتشر في مناطق شمال غرب سورية، وفضلاً عن أنها تغطي مساحة مهمة من الجغرافيا السورية، فإنها تشكل خط جبهة متقدماً قابلاً للإسناد بسهولة من داخل تركيا. ويحتفظ هذا الحضور العسكري بمظلة جوية وحماية صاروخية متكاملة، يسانده في حال الحرب ما يعرف بـ”الجيش الوطني” السوري، الذي يتشكل من عدة فصائل ذات تسليح وولاء تركيين. هناك مسألة مهمة جداً، تتعلق بنظرة العديد من السوريين وموقفهم من هذه القوات، فهم يعتبرونها صديقة، ساهمت في حمايتهم من الإبادة والتهجير من قبل نظام الأسد، وحلفائه الروس والإيرانيين، وبالتالي فإن المحيط العام على صلة جيدة بتركيا، وينسحب الأمر على الهيئات السياسية، التي كانت تتصدر تمثيل الثورة، كالائتلاف الوطني، بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني التي عملت في الداخل السوري، واستفادت من التسهيلات الرسمية التركية ومن طريق الأراضي التركية، خصوصاً الصحية والإغاثية، ومنها ما لا يزال يحتفظ بقاعدة لوجستية في تركيا.
تملك تركيا قوات عسكرية وأجهزة أمنية يفوق تعدادها 25 ألفاً في سورية
الورقة الثانية هي القوة الاقتصادية، ذلك أن العديد من المصالح الاقتصادية السورية انتقلت من دمشق وحلب والمدن الأخرى إلى تركيا، وفي مدينتي إسطنبول وغازي عنتاب، ومناطق حدودية مثل محافظة أنطاكية، نما اقتصاد سوري تجاري وخدمي وتصنيعي بقيمة تتجاوز 10 مليارات دولار. وبحكم العمل من داخل تركيا والاستفادة من السوق التركية، أصبحت هناك صلات متينة بين الاقتصادين، التركي والسوري، وهو ما يترجم نفسه تأثيراً متبادلاً في الاتجاهين. ومن المتوقع أن يمتد ذلك إلى داخل سورية، حيث تطمح الشراكات التركية السورية بالعمل من داخل سورية، وحالما يتحسن وضع خدمات الكهرباء والإنترنت، فإن رؤوس أموال كبيرة قد تنتقل إلى سورية. الورقة الثالثة هي التأثير الاجتماعي، إذ استقبلت تركيا قرابة خمسة ملايين سوري استقروا هناك، وقرابة مليون عبروها في طريق الهجرة، ولا يزال هناك حوالى ثلاثة ملايين، منهم أكثر من مليون ولدوا على أراضيها، ويتكلمون لغتها ويتعلمون في مدارسها، ويحظون بالخدمات نفسها التي تقدمها الدولة التركية للمواطن التركي، من صحة وتعليم ومساعدات اجتماعية، ومن بين هؤلاء هناك أكثر من 200 ألف يحملون الجنسية التركية. ويشكل هؤلاء جسراً بين البلدين، حاملاً للعلاقات المستقبلية، وصمام أمان لها من الاهتزازات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، عدم أخذه بالاعتبار.
حينما فشلت محاولات توقيع الاتفاق الأمني بين سورية وإسرائيل في نيويورك، صدرت تسريبات تتحدث عن دور تركي في ذلك. ونُسب إلى مصادر إعلامية كلام عن تدخل من قبل الرئيس التركي لدى نظيره الأميركي من أجل مساندة موقف الرئيس السوري أحمد الشرع، في رفض نقاط عديدة تضمنتها صيغة الاتفاق، أبرزها استمرار سيطرة إسرائيل على نقطة مرصد جبل الشيخ وتل الحارة، إضافة إلى المطالبة الإسرائيلية بممر إنساني إلى السويداء. التدخل التركي إن صحّ حصوله لإفشال الاتفاق يأتي في سلسلة مواقف منذ سقوط نظام الأسد، حيث حاولت أنقرة توسيع وجودها العسكري في سورية، وإقامة قواعد في مناطق الوسط، ولا سيما في حماة وحمص، وفي حينه عملت إسرائيل على استهداف أرضية هذه القواعد، وأعلن الإسرائيليون صراحة رفضهم أن تكون سورية قاعدة متقدمة لتركيا.
تقوم المرافعة التركية على اعتبار أن لدى إسرائيل مشروعاً يهدد الأمن القومي التركي، فالسيطرة على قرى جبل الشيخ الاستراتيجية، تكشف الوجود العسكري التركي في سورية، وترصد قسماً واسعاً من الأراضي التركية، على كامل منطقة البحرين المتوسط وإيجه، وفي الوقت ذاته تعتبر أنقرة أن أي “ممر إنساني” نحو السويداء، فاتحة لطريق يربط بين المحافظة وشمال شرق سورية، باتجاه مناطق نفوذ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تنسق مع أصحاب القرار العسكري والسياسي في السويداء. وهذا ما يفسر محاولات من تركيا للدخول إلى الجنوب السوري. وترى مصادر إعلامية أن لذلك صلة بالإنزال الذي نفذه الإسرائيليون قبل فترة في منطقة الكسوة، في ريف دمشق الجنوبي، وفي حينه جرى تداول أخبار تفيد بأن وسائل إعلامية قريبة من أنقرة قدمت معلومات تشير إلى أن تركيا اكتشفت أجهزة تجسس إسرائيلية وسعت لتفكيكها، لكن إسرائيل منعت ذلك باستهداف العناصر السوريين الذين دخلوا إلى الموقع لتفكيك الأجهزة، ومنع الطيران الإسرائيلي أياً كان من الدخول إلى تلك النقاط وسحب الجثث، وبعدها حصل الإنزال للحصول على هذه الأجهزة.
ترى أنقرة أن لدى إسرائيل مشروعاً يهدد الأمن القومي التركي
وبغض النظر عن صدق الروايتين، فإن العلاقات العسكرية والأمنية بين أنقرة ودمشق تسير بوتيرة متسارعة، وقد وقّع الطرفان اتفاقية تعاون عسكري في منتصف أغسطس/آب الماضي، تنص على تقديم أنقرة الدعم لجارتها الجنوبية في إعادة تنظيم جيشها، إلى جانب تزويده بأنظمة أسلحة متطورة، بهدف تعزيز قدراته الهجومية. وزار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أنقرة أكثر من مرة، واجتمع مع نظيره التركي هاكان فيدان ومسؤولين في الأمن والدفاع، وهناك ثلاث مسائل أساسية يجري بحثها والتنسيق اليومي فيها: الأولى تتعلق بالتعاون الثنائي المباشر، القائم على خصوصية العلاقات. الثانية هي الموقف الإسرائيلي من تطورات الوضع في سورية، ومحاولات التدخل واحتلال أراضٍ سورية جديدة، من أجل الضغط وجرّ دمشق إلى اتفاقات تقدم فيها تنازلات سيادية تحت الضغط والتهديد العسكري. والثالثة تطبيق اتفاق العاشر من مارس/آذار الماضي بين الدولة السورية و”قسد”.
التعاون الأمني بين دمشق وأنقرة
الملفات الثلاثة متقاطعة في أكثر من نقطة، تتأثر ببعضها، ويلقي كل منها بثقله على الآخر، فإنشاء قاعدة عسكرية تركية داخل سورية، أو تدريب الجيش وتسليحه، وتنامي التعاون الأمني، كل ذلك تتلقاه إسرائيل و”قسد” بقلق. ولذلك، تجري التفاهمات وعمليات التنسيق بين الحكومة السورية وتركيا بهدوء، ومن دون إثارة توتر، لأن تصعيد الموقف لا يأتي بنتائج إيجابية، خصوصاً اللجوء إلى الخيار العسكري لمواجهة التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية، أو مماطلة “قسد” ومحاولاتها لاستدراج القوات السورية لفتح معركة. وقد تبيّن في الآونة الأخيرة أن أنقرة تعمل على زج واشنطن في هذين الملفين، من أجل الضغط على إسرائيل لوقف أعمالها العدوانية، ودفع “قسد” إلى قبول خطوات الاندماج في المؤسسات العسكرية والأمنية السورية. وحسب مصادر سورية وكردية، فإن قائد القيادة المركزية الأميركية، الأدميرال براد كوبر، كان صريحاً في حديثه مع قائد “قسد” مظلوم عبدي في هذه النقطة، خلال اجتماع عقده معه في السادس من الشهر الحالي في الحسكة، وحضره المبعوث الأميركي توم برّاك، وحذر الجانب الكردي من أنه بعد نهاية السنة الحالية (موعد الانتهاء من تطبيق اتفاق العاشر من مارس) لن يكون له أي تدخّل سياسي أو عسكري إن أفشلت “قسد” تنفيذ الاتفاق، وطلب تسليم إنتاج حقول النفط والغاز في محافظة دير الزور للسلطة، ومنح السلطة الحقّ في تعيين موظفين وأعضاء ضمن حقول النفط والقوات الأمنية والعسكرية والمؤسّسات الخدمية في المناطق التي تسيطر عليها “قسد” من المحافظة.
هدف التحرك الأميركي منع حصول عملية عسكرية واسعة تقوم بها القوات السورية بمساندة من تركيا، ولكن هذا التحرك السريع والصارم من قبل واشنطن يعود السبب فيه إلى تفاهم أميركي تركي، يذهب بعيداً عن سورية إلى ملفات أخرى تصل إلى ترتيبات اليوم التالي في غزة، التي من المقرر أن تلعب تركيا فيها دوراً أساسياً على صعيد المساهمة بنشر قوات عسكرية في القطاع، وإعادة الإعمار. تنسق تركيا خطواتها في سورية مع السعودية وقطر، وتحسب ردود الفعل وحساسية الموقف العربي بدقة. فمن جهة، يشكل الثقل العربي عامل توازن، ومن جهة أخرى، يساعد في تقاسم أعباء الوضع السوري.
- العربي الجديد


























