أجهد منذ مدة في محاولة فهم النظام السياسي القائم حاليًا في سورية وتصنيفه، رغم أن هذه مهمّة يجب أن تكون، في الأحوال الطبيعية، يسيرة، فالنظم السياسية التي يعرفها العالم اليوم إما جمهورية أو ملكية، لجهة تركّز السلطة، ومصدر شرعيتها، وطريقة انتقالها، أو مدنية وعسكرية لجهة طابعها، وتكون لجهة التمثيل والعلاقة بين السلطات إما ديمقراطية (رئاسية، برلمانية، مختلطة) أو استبدادية (شمولية، فردية، ثيوقراطية).
الإعلان الدستوري السوري، الذي صدر في 13 مارس/ آذار 2025، لا يجعل مهمة تمييز نظام الحكم السوري الحالي أكثر سهولة، فعلى الرغم من أن الإعلان يصف، في المادة الأولى من الباب الأول، سورية بأنها جمهورية، ويتحدّث في الباب الثالث عن نظام الحكم في المرحلة الانتقالية، إلا أنه لا يحدّده صراحة، عليك أن تستنتج بنفسك أنه رئاسي، بحكم أنه يضع السلطة التنفيذية بشكل مطلق تقريبا في يد الرئيس. ويبلغ التناقض ذروته عندما يتحدّث الإعلان عن فصل السلطات في المادة الثانية من الباب الأول، لكنه يعطي، في الوقت نفسه، الرئيس (المادة 24) سلطة تشكيل مجلس الشعب سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما يعطيه صلاحية تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا السبعة جميعاً (المادة 47)، علماً أن هذه المحكمة هي التي تحاكم الرئيس في حال حصل ما يستوجب ذلك. تجعلنا هذه الصلاحيات أقرب، عمليّاً، إلى نظام الحكم الملكي المطلق، الذي ما زال قائماً في مناطق محدودة في العالم، مثل منطقة الخليج. إذاً نحن أمام نظامٍ يبدو، من الناحية الشكلية، جمهوريًا، بحكم الإعلان الدستوري، لكنه يبدو أقرب في صفاته، وتركّز سلطاته، إلى النظام الملكي المطلق، أيضاً بحكم الإعلان الدستوري. لكن النظام الأخير حكم فردي، الملك فيه هو صاحب القرار الأوحد، ومصدر السلطات، والتشريع. نظام الحكم في سورية لا يبدو كذلك، لوجود جماعة حاكمة (وإن بقيادة أمير) تسيطر اليوم على مفاصل القرار. هذا ينقلنا إلى نوع آخر من النظم السياسية (نظام الحكم الشمولي)، حيث تقبض جماعة من لون سياسي، أو أيديولوجي واحد، على السلطة. لكن الجماعة التي تقبض على السلطة في سورية اليوم لا تستمد شرعيّتها من الشعب، ولا تعترف به مصدراً للسلطات، بل ترفض الديمقراطية، وتحكم بموجب “تفويض ديني”، ما يجعلنا أقرب إلى نظام الحكم الثيوقراطي.
المشكلة التي تواجهنا هنا أن نظام الحكم الثيوقراطي، وأبرز الأمثلة عليه في عالم اليوم إيران، يتمتع فيه الحاكم بسلطة دينية إلى جانب سلطته السياسية، فقائد الثورة في إيران (منصب سياسي) هو نفسه الولي الفقيه (أي نائب إمام الزمان)، وله سلطة الاجتهاد والتشريع. ليس الوضع في سورية كذلك، إذ لا يدع الرئيس أحمد الشرع، في حدود علمنا ومعرفتنا، أي سلطة غير سياسية، وفي جماعته فصلٌ واضحٌ بين الأمير ورجل الدين (الشرعي الذي يؤم الناس) وهو في هذه الحالة مستشاره للشؤون الدينية. وفيما تغلبنا الحيرة أمام كل هذه التداخلات، تتشكل أمامنا بسرعة ملامح نظام سياسي أقرب إلى نظام الحكم الأوليغاركي، حيث تسعى جماعة حاكمة حديثة العهد بالسلطة إلى الإمساك بكل مفاصل القوة ومصادر الثروة، شيء ما يشبه نمط الحكم البوتيني في روسيا، أو الأردوغاني في تركيا، يعزّزه الإحساس بوجود دولة داخل الدولة، أو وجود هيكلين للسلطة، هيكل رسمي (سلطة اسمية) تجسدها مؤسسات الدولة القائمة، وهيكل موازٍ، غير رسمي، يقتصر على أعضاء في الجماعة (الشيخ)، ويجسد السلطة الفعلية. لكن المشكلة في الأوليغاركية الجديدة المتشكلة في سورية وجود فصائل عديدة، من خارج الجماعة الحاكمة، ما زالت تتمسّك بسلاحها، وتكافح للاحتفاظ بحصتها من غنيمة السلطة، فيما تتزايد الضغوط الخارجية لإشراك الأقليات. ومع أن التاريخ ينبئنا بأننا في مرحلة ما قد نكون أمام سيناريو قريب من سيناريو قلعة محمد علي باشا (1811) لحل هذه الازدواجية، وتركيز السلطة، حتى لا تتشظّى الدولة، إلا أن الظروف الإقليمية والمحلية هي التي ستقرر ذلك.
بالنتيجة، من الصعب معرفة شكل النظام السياسي الذي سيستقرّ عليه الحال في سورية، بعد عام أو عامين، نتيجة حالة السيولة التي يعيشها البلد وتداخل عوامل محلية ودولية كثيرة، لكن الأكيد أنه ما لم نذهب باتجاه توافقات وطنية واسعة على شكل الدولة ونظام الحكم، فقد ننتهي إلى الفوضى التي يخشاها الجميع.
- العربي الجديد



























