مع بزوغ فجر مرحلة جديدة في تاريخ سوريا الحديث بقيادة الرئيس أحمد الشرع وسعيه إلى توحيد مناطقها التي ظلت مقسمة إلى مناطق سيطرة متعددة، وقّع في العاشر من مارس 2025 اتفاق التفاهم المبدئي مع مظلوم عبدي قائد ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ليكون حجر الزاوية في إعادة توحيد البلاد وطوي صفحة الانقسامات التي فرضتها سنوات الحرب، لكن ما تلا ذلك اليوم من تردد ومماطلة من جانب قيادة قسد كشف عن حقيقة أعمق وأكثر تعقيدا، فالاتفاق يمثل تهديدا وجوديا لهيكلها ومكتسباتها وليس فرصة للاندماج الوطني، وهي تخوض معركة كسب الوقت على أمل أن يتغير الواقع المحلي أو الدولي بما يسمح لها بالبقاء كيانا مستقلا؛ لأنها لم توقّع على الاتفاق مختارة و لا راغبة ولكن مضطرة مكرهة مجبرة، إذ لا خيار آخر أمامها.
قد يبدو تباطؤ قسد في تطبيق الاتفاق والاندماج في ظاهره تكتيكا تفاوضيا، لكنه في عمقِه استراتيجيةُ بقاءٍ مبنيةٌ على إدراكها اليقيني بأن أي اندماج حقيقي وكامل في الجيش السوري الوطني الجديد سيعني بالضرورة ذوبانها وتلاشيها بشكل شبه كامل، نظرا لتكوينها البشري والإيديولوجي الهشّ والذي لا يمكنه الصمود أمام اختبار الاندماج في مؤسسة وطنية جامعة. ولفهم أسباب هذه الحتمية، لا بد من تفكيك ثلاث بنى لقسد هي: تركيبة القوات، والعوائق القانونية والسياسية، واستراتيجية الهروب إلى الأمام.
تعتمد قسد بشكل كبير على دافع المال لجذب المقاتلين واستبقائهم لكن هذا السلاح ذو حدين، فالولاء المبني على الراتب ينتهي عند أول عرض أفضل.
1. تركيبة القوات:
يكمن جوهر أزمة قسد في طبيعة المقاتلين الذين يشكلون قوامها العسكري. فهذه القوات ليست كتلة متجانسة مؤمنة بمشروع سياسي واحد، وإنما هي تكتل هجين وغير مستقر من أربع فئات رئيسة، وكل فئة منها لديها أسبابها الخاصة لترك هذا الكيان بمجرد توفر البديل الوطني الآمن، هذه الفئات هي:
الأولى: المجندون إجباريا
شكل التجنيد الإجباري الذي فرضته قسد في مناطق سيطرتها أحد أهم مصادر التذمر الشعبي ضدها، فآلاف الشبان العرب والأكراد على حد سواء سِيقوا إلى جبهات القتال قسرا وتحت طائلة التهديد والاعتقال وليس عن قناعة بمشروع قسد، ومع إعلان الحكومة السورية الجديدة إلغاء قانون التجنيد الإجباري في البلاد، فقدت قسد أهم أداة قهرية للحفاظ على أعداد مقاتليها، وكذلك فإن هؤلاء الشبان لا ينتظرون سوى اللحظة التي يتم فيها تفعيل الاتفاق ليعودوا إلى حياتهم المدنية وقراهم وعائلاتهم، فهم لم يختاروا هذه الحرب، ولن يستمروا فيها يوما واحدا بعد زوال الإكراه.
الثانية: المكرهون الصامتون
إلى جانب المجندين قسرا، هناك شريحة أوسع من المقاتلين الذين انضموا تحت ضغوطات مختلفة، سواء أكانت اقتصادية أم أمنية، وهم ينتظرون فرصة للانشقاق. وما يمنعهم اليوم من الانشقاق هو الخوف من التنكيل الذي سيطال عائلاتهم في مناطق سيطرتها، وقد وثّقت العديد من التقارير المحلية والدولية ممارسات قسد الانتقامية ضد المنشقين وعائلاتهم على نحوٍ خلق حالة من الرهبة تمنع الكثيرين من إعلان موقفهم الحقيقي. لكن بمجرد بسط الدولة السورية سلطتها وتوفير الحماية والأمان، سيتحرر هؤلاء من قيود الخوف، وسنشهد انشقاقات واسعة النطاق تكشف عن حجم الولاء المصطنع الذي بني عليه هذا الكيان.
الثالثة: المقاتلون المرتزقة
تعتمد قسد بشكل كبير على دافع المال لجذب المقاتلين واستبقائهم لكن هذا السلاح ذو حدين، فالولاء المبني على الراتب ينتهي عند أول عرض أفضل. ومن المتوقع أن تكون رواتب ومزايا وزارة الدفاع في الدولة السورية الجديدة أعلى وأكثر استقرارا وضمانا للمستقبل (تقاعد، تأمين صحي، وضع قانوني). المقاتل الذي يحمل السلاح لإطعام عائلته سيختار حتما الجهة التي تقدم له العرض الأفضل والأكثر أمانا، ومن ثَمَّ ستؤدي المنافسة الاقتصادية وحدها إلى نزيف حاد في صفوف قسد لصالح الجيش الوطني.
الرابعة: أبناء القبائل العربية
يشكل أبناء العشائر والقبائل العربية العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية من حيث العدد، خاصة في مناطق دير الزور والرقة والحسكة. وانضمام هؤلاء لم يكن نابعا من إيمانهم بالمشروع الفيدرالي الذي تقوده كوادر حزب العمال الكردستاني (PKK)، بل كان تحالفا تكتيكيا فرضته ظروف الحرب ضد تنظيم داعش والحاجة إلى الحماية والدعم، فقد كانوا بين خيارات (داعش والأسد وقسد) أحلاها مرّ كالحنظل، لكن جريا على قاعدة (أخفّ الأضرار). ولا شك أن هويتهم الوطنية السورية وانتماءهم العشائري العربي أقوى بكثير من أي ولاء عابر لـقسد أو لغيرها. ومع عودة الدولة السورية الجامعة، فإن هؤلاء المقاتلين سيندمجون بسرعة وبشكل طبيعي في الجيش الوطني الذي يمثل هويتهم الحقيقية، وسيعودون إلى حاضنتهم الاجتماعية التي لم تتقبل يوما الهيمنة الأيديولوجية لـقسد.
طريق المماطلة والمناورة واستفزاز الصراع، فهو مغامرة خاسرة وخطيرة ستشعل ضدها حربا طاحنة من الداخل وتركيا وستفقدها كل ما يمكن أن تحصل عليه بالتفاوض والاندماج.
2. العوائق القانونية والسياسية:
إذا كانت الفئات الأربع السابقة ستذوب طواعية أو بفعل عوامل الجذب، فهناك فئتان تمثلان عائقا قانونيا وسياسيا أمام أي اندماج، وهو ما يعزز حتمية تفكك قسد.
الأولى: فلول النظام السابق المطلوبون للعدالة
تضم صفوف قسد العسكرية والأمنية عددا من الضباط والعناصر والقيادات الذين كانوا جزءا من آلة القمع في النظام البائد وانضموا إليها لاحقا. هؤلاء مطلوبون للعدالة في سوريا الجديدة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومن المُحال سياسيّا وقانونيّا وأخلاقيّا أن تقبل الحكومة الجديدة دمج هؤلاء في جيشها الوطني؛ لأن ذلك من شأنه أن ينسف مصداقيتها ومبادئ العدالة الانتقالية التي قامت عليها، فمصير هؤلاء هو المحاسبة لا الاندماج.
الثانية: كوادر حزب العمال الكردستاني (PKK).
هذه هي المعضلة الأكبر، فالعمود الفقري الأيديولوجي والقيادي لـقسد هم كوادر حزب العمال الكردستاني وغالبيتهم من إيران وتركيا، وهو تنظيم مصنف إرهابيا في تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا يمكن للدولة السورية الجديدة أن تدمج عناصر تنظيم تعتبره أنقرة تهديدا لأمنها القومي، فوجود تلك الكوادر خط أحمر دولي وإقليمي، وأي محاولة لدمجهم ستفجر الوضع مع تركيا وتعيق خطوات إعادة اندماج سوريا محليا ودوليا؛ لذلك فإن مصير هذه الكوادر هو مغادرة الأراضي السورية، وبمغادرتهم تفقد قسد عقلها المدبر وقلبها الأيديولوجي.
3. استراتيجية الهروب إلى الأمام:
أمام هذه الحقيقة المرة، وهي أن الاندماج يعني التلاشي الحتمي، لم يتبقَ أمام قيادة قسد المستفيدة من الوضع الحالي سوى خيارين: إما القبول بالأمر الواقع وفقدان نفوذها ومكتسباتها، أو محاولة تغيير قواعد اللعبة، ويبدو أنها اختارت المسار الثاني وهو الهروب إلى الأمام عبر استراتيجية مركبة من استراتيجيات متعددة، منها:
- السعي لاندماج شكلي: تحاول قسد أن تفرض صيغة اندماج هجينة أو شكلية، يسمح لها بأن تحتفظ بهيكلها القيادي المستقل، وألويتها الخاصة، ومناطق نفوذها، في حين تحمل اسم الجيش السوري اسميا ليجنبها هجوما عسكريا تركيا، وليخفف عنها من الاحتقان الشعبي في مناطق سيطرتها. وهذا النموذج مرفوض تماما من الحكومة السورية التي تسعى لفرض سيادتها الحصرية على كل شبر من أراضيها وإنهاء كل المظاهر المسلحة خارج إطارها، كما هو مرفوض رفضا قاطعا من تركيا التي ترى في قسد -التي هي امتداد لحزب العمال الكردستاني – تهديدا مباشرا لأمنها القومي.
- استجرار الحكومة إلى الحرب: السيناريو الأخطر هو أن تسعى قسد عمدا إلى خلق احتكاك عسكري أو استفزاز يدفع الحكومة السورية الجديدة إلى رد فعل عسكري وتصوير نفسها على أنها ضحية، ونسف اتفاق 10 من مارس، والعودة إلى المجتمع الدولي بحجة أن الحكومة المركزية تهاجمنا، واستخدام هذه الذريعة للمطالبة بالحماية الدولية وترسيخ مشروع الفيدرالية أو الانفصال.
- محاكاة استراتيجية حكمت الهجري: التي تقوم على خلق أزمة أمنية للضغط على الحكومة وانتزاع مكاسب سياسية وإدارية. على أمل أن تفضل الحكومة تقديم تنازلات سياسية (مثل قبول الفيدرالية) لتجنب مواجهة عسكرية قد تستنزفها في بداية عهدها.
- السعي لتشكيل حلف أقليات: وقد ظهر ذلك جليا في مؤتمر الحسكة الذي ضم قسد وحكمة الهجري وغزال غزال وبعض المرتزقة والعلمانيين الذي لم يحصلوا على ما كانوا يظنون أنفسهم أولى الناس به من مناصب ومكاسب، فراحوا ينصبون العداء للحكومة والتحالف مع كل من يقف ضدها ولو كان شيطانا رجيما.
في آخر المطاف ستجد قسد نفسها في مأزق تاريخي، والطريق إلى الأمام واضح ومنطقي، وهو الانخراط الكامل والصادق في مشروع بناء سوريا الموحدة، لكن هذا الطريق يعني نهاية قسد بوصفها كيانا عسكريا وسياسيا مستقلا، وبقاء بضع مئات من كوادرها المستفيدين بلا نفوذ. أما الطريق الآخر؛ طريق المماطلة والمناورة واستفزاز الصراع، فهو مغامرة خاسرة وخطيرة ستشعل ضدها حربا طاحنة من الداخل وتركيا وستفقدها كل ما يمكن أن تحصل عليه بالتفاوض والاندماج؛ لأن العوامل الديموغرافية والسياسية والاقتصادية والوطنية كلها تعمل ضد مشروعها الانفصالي أو الفيدرالي، وستكشف الأيام المقبلة للجميع إذا ما كانت قيادة قسد ستختار الانصهار في الوطن أو مواجهة مصير محتوم في محاولة يائسة للتمسك بسلطة مصطنعة، وزائلة لا محالة لافتقارها إلى أهم مقومات استمرارها ووجودها.
- تلفزيون سوريا



























