تتواصل الاجتماعات بين قيادة “قوات سوريا الديمقراطية” والحكومة السوريّة، وكان آخرها اللقاء الذي جمع القائد العامّ لـ”قسد” مظلوم عبدي بكلّ من الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة، بمشاركة المبعوث الأميركيّ إلى سوريا توم بارّاك. وأكّد الطرفان أنّ اللقاءات لم تكن بروتوكوليّة أو ذات طابع استكشافيّ، بل حملت طابعاً عمليّاً نتجت عنه بلورة خطوط عامّة يُفترض أن تمهّد لمرحلة جديدة من التفاهمات السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة في شمالي شرق البلاد.
غير أنّ التصريحات المتفائلة التي تحدّثت عن قرب التوصّل إلى “اتّفاقات” و”دمج للقوّات” و”شراكات وطنيّة”، لا تخفي حقيقة أنّ ما يجري حتّى الآن لا يتجاوز تفاهمات شكليّة مؤقّتة تهدف إلى تخفيف الاحتقان وضبط التوازنات، أكثر ممّا تهدف إلى صياغة حلّ جذريّ شامل.
في هذا السياق، أكّد وزير الخارجية التركيّ هاكان فيدان بعد اتّصال مع نظيره السوريّ أسعد الشيباني، عدم وجود مؤشّرات إلى تقدّم في الشقّ الخاصّ والجوهريّ المتعلّق بتنفيذ اتّفاق اندماج قوّات “قسد” في مؤسّسات الدولة السوريّة. وشدّد خصوصاً على أنّ انسحاب “وحدات حماية الشعب الكرديّة”، التي تشكّل العمود الفقريّ لـ”قسد”، من المناطق ذات الغالبيّة العربيّة في سوريا يعدّ “أولويّة قصوى” حاليّاً.
يشكّل مسار العلاقة بين الشرع وقوّات سوريا الديمقراطيّة “قسد”، معطى أساسيّاً لتلمّس الاتّجاه العامّ للأمور، ليس فقط في مناطق شرق الفرات وبين “روجافا” ودمشق، بل على امتداد الجغرافيا السوريّة
من القائد الفعليّ لـ”قسد”؟
فيما أكدّ قائد “قسد” مظلوم عبدي الاتّفاق على آليّة الاندماج، جاء الظهور المفاجئ لقائد “وحدات حماية الشعب الكرديّة” (أكبر تشكيلات “قسد”) سيبان حمو ليقلب المشهد رأساً على عقب، عندما خرج عن صمت إعلاميّ عمره 12 سنة وأدلى مرتدياً البزّة العسكريّة بتصريحات أوحت بعدم حصول اتّفاق. فقد وجّه انتقاداً مبطّناً للحكومة السوريّة متّهماً إيّاها بأنّها تسعى إلى القضاء على تشكيله العسكريّ وإلغاء هويّته السياسيّة والاجتماعية والإداريّة، مشدّداً على “لامركزيّة الحكم” في مناطق نفوذه. وقال في مقابلة مع المركز الإعلاميّ لـ”قوات سوريا الديمقراطية”: “قوّات “قسد” مستعدّة للانضمام إلى الجيش السوريّ الجديد المزمع تشكيله، شرط أن يتمّ الدمج على أسس تحترم هويّة “قسد” ونضالها وتضحياتها، وتحفظ حقوق جميع مكوّنات الشعب السوري دون استثناء”، ونبّه إلى أنّ “الخطوات المقبلة لحكومة دمشق هي التي ستحدّد ما إذا كان الدمج سيتسارع أو يتباطأ أو ربّما يتجمّد”.
اكتسبت هذه التصريحات أهمّية خاصّة لأنّها تعبّر عن الرؤية التفاوضيّة للإدارة الذاتيّة التي تعتبر “وحدات الحماية” ركنها الفعليّ، وتوضح حدود ما يمكن أن تصل إليه العلاقة بين “روجافا*” ودمشق. إذ تقدّم مقاربة مشروطة للدمج وتربطها بضرورة أن يتمّ ذلك على أسس وطنيّة ديمقراطيّة تحفظ هويّة “قسد” وتضمن حقوق جميع المكوّنات السوريّة. تتعامل هذه الصيغة مع “الدمج” من حيث هو مفهوم سياسيّ أكثر منه عسكريّاً، أي إطار لانتزاع اعتراف دستوريّ بالإدارة الذاتيّة وليس خضوعاً تنظيميّاً. وتجعل “الدمج” أداة تفاوضيّة تُبقي الباب مفتوحاً أمام دمشق والولايات المتّحدة في آن واحد.
على الرغم من غيابه عن الصورة، كان لحمو الدور الأكبر في تحقيق علاقات متوازنة مع مختلف القوى المتصارعة في ريف حلب الشماليّ، من فصائل “الجيش الحر” آنذاك و”جبهة النصرة” إلى قوّات النظام السابق. وكان الوسيط “غير المعلن” بين أطراف متحاربة، لا سيما قبل التدخّل التركيّ في آب 2016 وإنشاء فصائل موالية لأنقرة، وما تلاه من سيطرة على عفرين في آذار 2018. وسُجّل آخر ظهور لحمو، قبل نشر صوره السبت الماضي، في آب 2014، في منتجع “جبل الأحلام” بباسوطة، خلال اجتماع مع عبدالجبّار العكيدي، قائد المجلس العسكريّ الثوريّ في حلب. وفي تشرين الأوّل 2017، كان أوّل قياديّ من “قسد” يسافر إلى روسيا لمناقشة مستقبل مناطق مثل دير الزور والرقّة.
لاحظت مصادر مقرّبة من الحكومة السوريّة في تصريحاته وجود “خلاف تيّارات” داخل “قسد”، وقالت إنّ بعض تلك التيّارات لديها مشكلة متجذّرة مع الدولة السوريّة الجديدة، وتتطلّع دمشق إلى تمكّن التيّارات المعتدلة من تحييدها.
لا يمكن فصل موقف دمشق النهائيّ عن موقف أنقرة التي تربط ملفّ “قسد” بالحوار الجاري مع حزب العمّال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان
3 فرق عسكريّة في الجيش لـ”قسد”؟
قبل تصريحات حمو كان الحديث يدور عن اتّفاق مبدئيّ على إنشاء ثلاث فرق عسكريّة في شمالي شرق سوريا، جميع عناصرها من “قوات سوريا الديمقراطية”، على أن تكون هذه الفرق بمنزلة البديل النظاميّ للجيش السوريّ في تلك المناطق. وسيكون لهذه الفرق طابع محلّي–وطنيّ مزدوج، فتتبع رسميّاً وزارة الدفاع السوريّة، لكنّها ستتمتّع في الوقت ذاته بنوع من الاستقلاليّة الذاتيّة في إدارة شؤونها الميدانية ضمن مناطق انتشارها.
تهدف هذه الخطوة إلى احتواء قوّات “قسد” ضمن البنية الرسميّة السورية من دون إلغائها أو تذويبها بالكامل، بحيث يتمّ الاعتراف بها كقوّة شرعيّة في إطار مؤسّسات الدولة، لكنّها تحتفظ بخصوصيّتها الأمنيّة والإداريّة داخل مناطقها، لا سيما في الحسكة والرقّة وأجزاء من دير الزور. وأوضحت المصادر أنّ هذه الفرق الثلاث ستكون مسؤولة عن الأمن الداخليّ والدفاع الإقليميّ في مناطق الشمال الشرقي، ولن يُسمح لأيّ ألوية أو وحدات أخرى من الجيش السوريّ بالدخول إلى هذه المناطق، وهو ما يعني فعليّاً منح “قسد” مساحة واسعة من الإدارة الذاتيّة العسكريّة، وإنْ تحت سقف الدولة السوريّة.
تطرّقت المفاوضات إلى ملفّ آخر بالغ الحساسيّة يتمثّل في دمج مقاتلين من “قسد” داخل ألوية خاصّة ستُنشأ ضمن هيكل وزارة الدفاع السوريّة تحت اسم “قسم مكافحة الإرهاب”. ستعمل هذه الألوية الجديدة في جميع أنحاء البلاد، وليس فقط في الشمال الشرقي، وهو ما يعكس محاولة لبناء شراكة أمنيّة جديدة بين دمشق و”قسد” على قاعدة تبادل المنفعة.
بحسب مصادر المفاوضين، لن تعترف دمشق رسميّاً بتسمية “قوّات سوريا الديمقراطية”، بما في ذلك “وحدات حماية المرأة” و”وحدات حماية الشعب”، على أن يتمّ اعتماد تسمية جديدة تكون مقبولة رسميّاً لتصبح جزءاً من الهيكل العسكريّ السوريّ. وأشارت إلى أنّ هذا التغيير سيقتصر على الأسماء فقط، دون تغيير في البنية التنظيميّة أو المهامّ الحاليّة للقوّات. وطالبت دمشق أيضاً بأن يكون لها الحقّ الحصريّ بالتفاوض مع “قوّات التحالف الدولي” في سوريا. وبقيت ملفّات عالقة بين الطرفين، مثل الإعلان الدستوريّ والاقتصاد والمعابر والتعليم وعودة النازحين.
على الرغم من الاشتباكات المحدودة بين الطرفين في دير حافر وحيّ الشيخ مقصود في حلب، لا مؤشّرات إلى رغبة أيٍّ منهما في خوض حرب مفتوحة نظراً لكلفتها الكبيرة التي تفوق مكاسبها المحتملة
شراء الوقت بانتظار تطوّرات الإقليم؟
في الواقع، يشتري الطرفان الوقت ويتعاملان مع الواقع من منظور البقاء ويحاول كلّ منهما الحفاظ على موقعه الاستراتيجيّ، مع الانفتاح المحدود على التفاوض. تتلطّى “قسد” بالحوار لتثبيت مكتسباتها الميدانيّة والسياسيّة، ولبناء شرعيّة داخليّة في مناطقها، مستفيدة من الدعم الأميركي والمظلّة الدولية. أمّا دمشق التي ترفض ضمناً أيّ صيغة شراكة سياسيّة حقيقيّة، فلا ترى في “قسد” سوى قوّة أمر واقع ينبغي احتواؤها لا مشاركتها. وتستخدم التفاهمات الجزئيّة لتخفيف العقوبات الاقتصاديّة والحصول على النفط وتحييد بعض الجبهات من دون تقديم تنازلات حقيقيّة.
تبقى التسوية النهائيّة مسألة بعيدة ومعقّدة في الوقت الراهن، نظراً لوجود تضارب مصالح داخليّ وإقليميّ، علاوة على حساسيّة العلاقة مع الأطراف الدوليّة المؤثّرة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة وتركيا.
لا يمكن فصل موقف دمشق النهائيّ عن موقف أنقرة التي تربط ملفّ “قسد” بالحوار الجاري مع حزب العمّال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان.
أمّا واشنطن، القوّة الوحيدة القادرة على تدوير الزوايا بين “روجافا” ودمشق وأنقرة، فلا تزال تتريّث في القرار النهائيّ لدمج قوّات “قسد” بالجيش السوريّ من أجل حماية نفوذها المباشر في شرق الفرات عبر دعم حلفائها الأكراد سياسيّاً ولوجستيّاً. وبالفعل، وتزامناً مع إجراء المفاوضات، كانت شحنة من الأسلحة الأميركيّة تصل إلى قواعد “قسد” متضمّنة منظومات دفاع جوّي ومدرّعات. وبدأ المبعوث الأميركي توم بارّاك وقائد المنطقة المركزيّة الجنرال براد كوبر جولتهما السوريّة الأخيرة، بالحسكة وليس من دمشق. وتستعمل واشنطن ملفّ نفط دير الزور ومكافحة الإرهاب ورقتَي ضغط على حكومة الشرع.
على الرغم من الاشتباكات المحدودة بين الطرفين في دير حافر وحيّ الشيخ مقصود في حلب، لا مؤشّرات إلى رغبة أيٍّ منهما في خوض حرب مفتوحة نظراً لكلفتها الكبيرة التي تفوق مكاسبها المحتملة. والأرجح أن تتواصل الاتّصالات والتنسيق الأمنيّ والاقتصاديّ مع تصعيد محدود من دون التوصّل إلى اتّفاقات حاسمة وحلّ سياسيّ جذريّ، بانتظار ما ستفرضه التحوّلات الإقليميّة المقبلة.
*روجافا: هي التسمية المختصرة التي يقصد بها تحديداً المنطقة ذات الغالبية الكردية في شمال وشمال شرق سوريا
- أساس ميديا



























