
بعد مرور عام على انهيار نظام الأسد (الأب والابن)، الذي هيمن بالاستبداد والفساد على سوريا لأكثر من نصف قرن، بات من الممكن إجراء نوع من جردة حساب أو مراجعة لنجاحات وإخفاقات القيادة الانتقالية الجديدة، وطرح السؤال: أين كانت سوريا؟ وأين صارت؟ وكيف يمكن أن تكون أفضل؟
بيد إن هذه المراجعة وتلك الأسئلة تفترض قبلاً، من أجل الموضوعية، التمييز بين الإخفاقات النابعة من العامل الذاتي، وتلك النابعة من الظروف الموضوعية، أي الخارجية وكذلك الموروثة من النظام البائد.
وحري، أيضاً، أن تنطلق تلك المراجعة أو تلك الأسئلة من الواقع المعطى، إذ تسلمت القيادة الانتقالية الجديدة البلد وهو منهك ومستنزف ومفكك من كل النواحي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. كان البلد تحت نقطة الصفر على كافة الأصعدة، إن في البنى التحتية، أو بحكم انهيار الأجهزة والمؤسسات الإدارية والخدمية والأمنية، ويشمل ذلك تدهور مستوى المعيشة، وشيوع البطالة والفقر.
إضافة إلى كل ما تقدم، عانى شعب سوريا ويلات حرب إبادة وحشية مدمرة، على مدى 14 عاماً، وبات في كل بيت مأساة ووجع، كما بات السوريون يفتقدون الثقة ببعضهم البعض، بعد أن نجح النظام في سياساته وفي حربه، ليس فقط في الحؤول دون تعريف أو إدراك ذاتهم كشعب، بل في وضعهم أيضاً في مواجهة بعضهم للبعض الآخر، كـ”مكونات” تحت مستوى الشعب، على أسس طائفية وإثنية وعشائرية ومناطقية، فاقمها قيام النظام بتصحير الحياة السياسية وتحريم السياسة في المجتمع السوري، ما خلق حالة من الفراغ السياسي.
تبعا لكل ما تقدم، يمكن القول بأن القيادة الانتقالية في سوريا، استطاعت أو نجحت في استعادة الاستقرار في معظم الجغرافيا السورية. كما إنها نجحت في ترميم التآكل أو الخراب في البنى التحتية، وهذا واضح في قطاعات الكهرباء والمياه والطرق والخدمات التعليمية والصحية، وإعادة تدوير العجلة الاقتصادية، بعد تخفيف القيود والمعوقات القانونية والبيروقراطية.
بديهي في هذا الإطار إن النجاحات الأبرز تمثلت على الصعيد الخارجي، عربياً وإقليمياً ودولياً، الأمر الذي انعكس بتعزيز شرعية القيادة السورية الانتقالية. وتمثل ذلك باحتضان العربية السعودية بشكل خاص لسوريا، وهذا يشمل تركيا. كما تمثل ذلك بالانفتاح على معظم الدول الفاعلة في العالم، وضمنها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
إذاً، ثمة مظاهر عديدة تؤكد تعافي سوريا، وتؤكد أهلية السوريين للنهوض ببلدهم، يحد منها عديد من المداخلات، التي تتضمن مخاطر، ومنها محاولات إسرائيل إضعاف سوريا، من خلال تهديدها أمنياً، وسياسياً، واجتماعياً، سواء من خلال ادعاء فرض شروط تسهم في تعزيز أمنها القومي، أو من خلال رفعها شعار “حماية الأقليات”، الذي تستهدف منه إبقاء سوريا ضعيفة ومفككة، إضافة إلى إبقاء هضبة الجولان السورية تحت الاحتلال.
تأتي في هذا الإطار، محاولات بعض الأطراف السورية، على خلفية إثنية أو طائفية، فرض صيغ تعيق تشكل السوريين كشعب، من مواطنين أحرار ومتساوين، لصالح صيغة تحول الشعب السوري إلى مجمع من مكونات، على الطريقة اللبنانية والعراقية. وهذا هو مصدر الخلاف الأساسي، الذي تسبب بأزمة السويداء، والذي يحول دون استعادة الجزيرة، أو شرقي الفرات إلى الجسم السوري. وبديهي إن هاتين المشكلتين، تتضمنان في الباطن بعضاً من بقايا النظام البائد، الذين يحاولون إعادة التاريخ إلى الخلف، كما تتضمنان محاولات من إسرائيل لتوظيف هذا الشرخ وفقاً لصالحها، وضمنه طبع سوريا بالطابع الطائفي والاثني، باعتبار إسرائيل دولة يهودية وطائفية.
المشكلة هنا أن طريقة التعامل مع هذه المخاطر جرى بطريقة عنيفة، واستئصالية ومتسرعة. الأمر الذي أكل من شرعية القيادة الانتقالية في المجتمع السوري، وعلى الصعيد الخارجي. كما إن ذلك سهل على إسرائيل التدخل إلى هذه الدرجة أو تلك، ما فاقم من الأزمات الداخلية.
في الواقع، رغم كل ما تقدم، فإن القيادة الانتقالية في سوريا تحظى بقبول، وبشرعية عند معظم السوريين. فهي في اعتبارهم التي خلصتهم من نظام الأسد، وأنها هي التي أعادة الاستقرار في معظم الأراضي السورية، ثم إنها فتحت سوريا على العالم، أو فتحت العالم أمام السوريين. أيضاً جانب آخر يضفي قوة شرعية على القيادة الانتقالية ناجم عن الدعم والاحتضان، السياسي والاقتصادي، الذي تحظى به عربياً وإقليمياً ودولياً.
تبعاً لما تقدم، فإن القيادة السورية معنية بالاستثمار بالنجاحات المتحققة، لتحويل المخاطر إلى فرص. وهذا يتطلب، أساساً، إرساء مقومات الدولة، كدولة مؤسسات وقانون، بدل السلطة، والتركيز على المواطنة، وسيادة الشعب، باعتبار ذلك هو الأساس في فكرة سيادة الدولة على أراضيها، وباعتبار إن الشرعية الداخلية هي التي تعزز أو ترسخ الشرعية المتأتية من الخارج. فهذا هو الوضع الذي يعيد ثقة السوريين ببعضهم البعض، ويمكّن من إقامة سوريا الواحدة في دولة تضم شعباً من مواطنين، على أن يتعزز ذلك في دستور واضح.
سوريا اليوم، وبعد كل ما مرت به، وبعد التصحر السياسي والاقتصادي والتفكك الاجتماعي، الذي عانت منه لعقود، بحاجة إلى مرحلة للالتقاط الأنفاس والتعافي، وصولاً إلى الحكم الرشيد في دولة قانون ومواطنين. وهذا هو المطلوب والملحّ بعد عام مضى.
- المدن
























