تتأرجح المنطقة على وقع التحوّلات المتسارعة، إذ يزداد الحديث في إسرائيل عن “شرق أوسط جديد” تقوده واشنطن، بمشاركة دول عربيّة مؤثّرة وإسرائيل. لكنّ تتراجع الآمال في تل أبيب أن يقوم شرق أوسط على قياس وطموحات رئيس الحكومة الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرّفة. إذ ليس مفاجئاً القول إنّ الإدارة الأميركيّة الحاليّة، برئاسة دونالد ترامب، تضع رهانات كبيرة على دور المملكة العربيّة السعوديّة، وقد ظهر ذلك في زيارة وليّ العهد السعوديّ محمّد بن سلمان لواشنطن في 18 الجاري.
الاتّفاقات التي وُقِّعت خلال هذه الزيارة، لا سيما منها اتّفاق الدفاع الاستراتيجيّ، وإعلان ترامب أنّ “السعوديّة حليف أساسيّ خارج الناتو”، تؤكّد أن البيت الأبيض رأى في هذه الزيارة فرصة لتعميق التحالف التاريخيّ مع المملكة العربيّة السعوديّة وإطلاق مرحلة جديدة من الشراكة الأمنيّة والاقتصاديّة.
تتأرجح المنطقة على وقع التحوّلات المتسارعة، إذ يزداد الحديث في إسرائيل عن “شرق أوسط جديد” تقوده واشنطن، بمشاركة دول عربيّة مؤثّرة وإسرائيل
الشّرق الأوسط الجديد؟
عبّرت الصحافة الإسرائيليّة قبل زيارة وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان لواشنطن عن قلقها من قائمة المطالب التي يحملها، إذ تشمل اتّفاقاً دفاعيّاً متقدّماً، صفقات تسليح ضخمة وحقّ تطوير برنامج نوويّ سعوديّ “مستقلّ”، وهو ما يثير برأيهم حساسيّة تل أبيب بسبب المخاوف من تحويل البرنامج المدنيّ إلى طموح عسكريّ مستقبليّ. يمكن القول إنّ المنطقة ما قبل الزيارة ليست كما بعدها.
الأسئلة كثيرة: هل فعلاً انطلق مسار الشرق الأوسط الجديد؟ أم تتّجه المنطقة إلى إعادة رسم خرائط النفوذ فيها؟ وهل يكمل ترامب مسار التمايز بين المصالح الأميركيّة والمصالح الإسرائيليّة، الذي ظهر في دفعه نتنياهو إلى وقف الحرب في غزّة وتوقيع اتّفاق دفاع مشترك مع قطر بعد استهدافها من قبل إسرائيل، وتوقيع اتّفاق دفاع مشترك مع المملكة دون ربطه بالتطبيع؟ وهل ينطلق مسار سياسيّ يضمن قيام الدولة الفلسطينيّة الشرط الأساسيّ لتطبيع المملكة مع إسرائيل؟ والسؤال الأهمّ: كيف ستتعامل إسرائيل مع نتائج زيارة بن سلمان لواشنطن ذات التداعيات الجيوسياسيّة الكبيرة على دورها في المنطقة؟ وكيف ستتعامل مع التحوّلات الكبيرة في الوضع السوريّ، لا سيما بعد زيارة الشرع للبيت الأبيض؟
تتأرجح المنطقة على وقع التحوّلات المتسارعة، إذ يزداد الحديث في إسرائيل عن “شرق أوسط جديد” تقوده واشنطن، بمشاركة دول عربيّة مؤثّرة وإسرائيل
نجحت الرّياض في رفض التّطبيع المجّانيّ
ليس سرّاً القول إنّه كان يدور في رأس الإسرائيليّين إمكان تحقيق اختراق في ملفّ التطبيع السعوديّ–الإسرائيليّ، الذي تحدّث ترامب عن اقتراب التوصّل فيه إلى اتّفاق “تاريخيّ”. وكان القلق من عدم حصول هذا الاختراق واضحاً في الصحافة الإسرائيليّة. إذ كتب عاموس برئيل في صحيفة هآرتس أنّ “أكثر السيناريوهات المسبّبة لقلق إسرائيل، في الفترة القريبة، لا يقتصر فقط على حصول السعوديّة على طائرات أميركيّة مقاتلة من طراز F-35، بل يتعلّق بإتمام ذلك خارج إطار صفقة تتضمّن تطبيعاً سعوديّاً–إسرائيليّاً والتزاماً ضبابيّاً من إسرائيل لرؤية الدولة الفلسطينيّة.
زيارة وليّ العهد السعوديّ محمّد بن سلمان لواشنطن، أبرزت صفقة شاملة يعمل الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب على دفعها، غير أنّ العلاقات الوثيقة للغاية بين الإدارة الجمهوريّة والمملكة العربيّة السعوديّة دفعت ترامب إلى منح الرياض هذه الهديّة، من دون أن يطالبها بمقابلٍ فوريّ”.
نجحت المملكة في رفض التطبيع المجّانيّ أو في إعطاء إسرائيل شيكاً على بياض في هذه المسألة، وتمكّن بن سلمان بقدرته على استخدام أوراقه الجيوسياسيّة المتعدّدة من جعل ترامب يفصل العلاقات الأميركيّة–السعوديّة عن ملفّات إسرائيل ومصالحها. الموقف السعوديّ قويّ أكثر من أيّ وقت مضى، إذ تربط المملكة أيّ خطوة علنيّة تبحقيق تقدّم في الملفّ الفلسطينيّ وضمانات لقطاع غزّة تشمل وقفاً دائماً لإطلاق النار، انسحاباً تدريجياً للقوّات الإسرائيليّة، نزع سلاح “حماس” وتسليم إدارة القطاع للسلطة الفلسطينيّة أو جهة دوليّة محايدة.
بات الاعتماد على القوّة لتحقيق المصالح وهماً، ويبدو أنّ إسرائيل ستحتاج إلى وقت طويل لبناء استراتيجية قائمة على الواقعيّة السياسيّة، تمهيداً لإنجاز تسوية شاملة
الملفّات لم تُغلق
من جهته، يرى مئير بن شابات، الرئيس السابق لمجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ، أنّ الصورة أكثر تعقيداً، إذ كتب في معهد “مسغاف”: “غياب الاستقرار يشكّل السمة الأبرز للواقع الإقليميّ الراهن… الاتّفاقات التي تمّ التوصّل إليها لم تُغلِق الملفّات، بل سمحت بتفاهمات سريعة تركت مجالاً لتفسيرات متناقضة، وبالتالي ما سيحدث على الأرض هو الذي سيبلور الواقع”.
يضيف: “إنجازات إسرائيل في الحرب غيّرت ميزان القوى، لكنّها لم تكسر روح أعدائها، ولم تغيّر موقف بقيّة اللاعبين تجاهها”.
السُّنّة في موقع قويّ؟
يبدو أنّ الإحباط يسيطر على القادة في إسرائيل، الذين لم يتوقّفوا خلال العامين الأخيرين عن الحديث عن “الشرق الأوسط الجديد” و”إسرائيل الكبرى”. غير أنّ الواقع يثبت اليوم أنّ تلك الطموحات تصطدم بتعقيدات الميدان، وأنّ النظريّات لا تصمد أمام الحقائق المتغيّرة على الأرض.
بدأت بعض النخب الفكريّة الإسرائيليّة تراجع مواقفها، داعية إلى ضبط الطموحات ومراجعة التصوّرات في ظلّ واقع إقليميّ مغاير تماماً لما كان متخيَّلاً. ويُلاحَظ أنّ الإسرائيليّين ينظرون الآن بريبة إلى انفتاح الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب على العالم السنّيّ، وفي مقدَّمه المملكة العربيّة السعوديّة.
تستفيق إسرائيل اليوم على الفارق الشاسع بين الطموحات والواقع المعقّد، وتعيش في الوقت ذاته هاجس السياسة الجديدة لترامب الذي أدرك أهميّة العالم السنّيّ في معادلات المنطقة. وعلى الرغم من دعمه الكبير لإسرائيل، يحاول بناء سياسة خارجيّة أميركيّة مستقلّة تميّز بين مصالح واشنطن ومصالح تل أبيب.
في هذا السياق، يرى زيف أنّ “إسرائيل تواجه تحدّياً أكبر من إدارة صراعات محلّيّة. فهناك محور سنّيّ تقوده السعوديّة وتركيا يعيد تشكيل المنطقة لمصلحته، ويحدّ من قدرة إسرائيل على التأثير”. وحذّر بن شابات أيضاً من المبالغة في التفاؤل، مؤكّداً أنّ “الإنجازات العسكريّة لا تعني انتهاء التهديدات”.
تعكس هذه التحليلات الأزمة العميقة التي تعيشها تل أبيب، التي تتأرجح اليوم بين أمرين كبيرين: الأوّل حاجة الولايات المتّحدة إلى دور سنّيّ محوريّ في المنطقة، والثاني عدم قدرة إسرائيل على السيطرة على الديناميكيّات الجديدة.
بات الاعتماد على القوّة لتحقيق المصالح وهماً، ويبدو أنّ إسرائيل ستحتاج إلى وقت طويل لبناء استراتيجية قائمة على الواقعيّة السياسيّة، تمهيداً لإنجاز تسوية شاملة تؤدّي إلى قيام دولة فلسطينيّة وتفتح الطريق نحو شرق أوسط جديد أكثر توازناً واستقراراً.
* أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة اللبنانيّة.
- أساس ميديا






















