
الراجح أنه صحيحٌ كل الصحّة الخبر الذي طيّرته قناة كان العبرية، أن المفاوضات السورية الإسرائيلية (المباشرة وغير المباشرة) وصلت إلى طريق مسدود. ومما رشح أن دولة الاحتلال ترفض الاستجابة لطلب دمشق الانسحاب من المواقع والمساحات التي احتلتها في الأراضي السورية (منها قمّة جبل الشيخ) بعد “8 ديسمبر” (2024)، لبناء ما ظلّ يسمّى “اتفاقاً أمنياً”، يقوم على أساس اتفاقية سعسع الموقّعة في مايو/ أيار 1974، وانسحبت إسرائيل بموجبها من أراضٍ احتلتها في أثناء حرب تشرين (1973). وفي الأنباء، أن تل أبيب تشترط اتفاقية سلام نهائية مع سورية لهذا الانسحاب المُطالَبة به، من دون استعدادٍ لإعادة هضبة الجولان المحتلة منذ 1967. والظاهر أن فائض القوة لدى دولة العدوان يجعلها تتوهّم في نفسها قدرة على فرض إرادتها على الحكم الراهن في سورية، الذي يفتّش عن كل نافذةٍ تُسعفه في إنقاذ أحوال المواطنين الاقتصادية والمعيشية الصعبة. ولكن ما حدث، رغم تصريحاتٍ سوريةٍ رسميةٍ كانت على بعض التفاؤل بقرب التفاهم مع إسرائيل، أن الأخيرة تريد “انتحاراً” يُعلنه الرئيس أحمد الشرع، ولكن الرجل ليس في وسعه أن يفعل هذا، ولا يجد نفسه مضطرّاً له، فضلاً عن أن ثقافته الخاصة، التي يُفاجئنا، يوماً بعد آخر، بتطعيمه لها ببراغماتيّةٍ ظاهرة، لا تُجيز له هذا المدى من “تنازلاتٍ”، لا شرعيّة وافية له لتقديم شيءٍ منها.
تبدو الحكومة الفاشية في تل أبيب متبرّمةً من الانفتاح الأميركي الواسع على دمشق، برئاسة جهاديٍّ سابق، أزال مجلس الأمن عنه عقوباتٍ معلومة، ساعاتٍ قبل دخوله البيت الأبيض (خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي والعقوبات عليه قائمة!). ويبدو أن ترامب “يتفهّم” امتناع الشرع عن الاستجابة للطلبات الإسرائيلية، غير المتصوّرة، ولكنه لا يبذل جهداً في إقناع نتنياهو بأن يكفّ جيش الاحتلال عن التوغّلات اليومية في القنيطرة وغيرها، وعن اعتداءاتٍ متكرّرة كلما عنّ لهذا الجيش استعراض استضعافه الدولة السورية. ولا تطلب السلطة في دمشق إلا أن “تكفّ شرّها” إسرائيل عن سورية والسوريين، بتعبيرٍ، بالغ الدقّة والصحّة، للوزير أسعد الشيباني، عندما أوضح، في المنامة، هذا هدفاً لكل التفاوض الذي يُجريه شخصياً مع الجانب الإسرائيلي.
المعنى من هذا كله أن السلطة السورية الحالية ليست كما يصوّرها بعض كارهيها، مستعجلةً تطبيعاً مع إسرائيل التي تتمنّع. وقبل هذا وبعده، لا ترتكب هذه السلطة إثماً مُحرّماً عندما تتفاوض مع الدولة المعتدية، فلا وسيلة لها غيره، وغير محاولة إقناع الرئيس ترامب بأن “يتدخّل”، ما دام معنيّاً بتقدّم سورية واستقرارها. وليس تقريظاً ولا مديحاً القول، هنا، إن الرئيس الشرع لن يستجيب لطلباتٍ إسرائيليةٍ تعجيزيةٍ (وبالمجان!)، فمن بديهيّ البديهيّات استحالة سلام مصطنعٍ مع تل أبيب، بالإكراه، وبالبلطجة التي وصلت إلى ضرب القصر الرئاسي ومقرّ وزارة الدفاع في دمشق، ثم تجوّل نتنياهو ووزيره كاتس في أراض في الجنوب السوري. ولم يكن صاحبُنا يمزح عندما قال لصحيفة واشنطن بوست إن إسرائيل قد تصل من سورية إلى ميونخ إذا استُجيب لطلبها الاحتفاظ بأراضٍ في الجنوب لحماية هضبة الجولان التي احتلّتها لحماية نفسها. وكان “دبلوماسيّاً” لمّا قال إن هناك فروقاً بين سورية والدول التي وقّعت اتفاقيات (إبراهيميّة) مع إسرائيل التي “لا تزال تحتلّ الجولان”، على ما أوضح لمن لا يريد أن تتّضح له الأحوال، وأفاد مستمعيه في نيويورك (في سبتمبر) بأن إسرائيل نفّذت منذ إطاحة نظام الأسد “نحو ألف غارةٍ دمّرت فيها مؤسّسات سورية كثيرة”، وأجرت ما يناهز “أربعمئة توغّل عسكري برّي داخل الأراضي السورية”. وأمام حقائق كهذه، لا تغيب عن ناظري رئيسٍ انتقاليٍّ يُغالب أوضاعاً غايةً في التعقيد والصعوبة في بلده، لن تصل أي مفاوضات مع تلك الحكومة العدوانية إلى طريقٍ غير مسدود.
هو حسنُ الظن فقط يبقى مطلوباً بشأن الحكم في سورية، في أمر التفاوض الصعب مع دولة الاحتلال، … وفي غيرِه ربما أيضاً.
- العربي الجديد























