خلّفتْ حركاتُ الإصلاح الدينيّ بزعامة الإمام محمد عبده آثارَها الملحوظة في الحياةِ الثقافيةِ الإسلاميةِ بمُختلف مَيادينها، تشهدُ بذلك حركة التأليف في الفكر الدينيّ ومُحاولة رد أصوله إلى الإسلام. ونتيجة لذلك؛ فإن المشتغلينَ بالفلسفة الإسلامية تابعوا تلميذ الإمام الشيخُ الأكبر مصطفى عبد الرازق (ت 1947) في إثباتِ أنّ الفلسفة الإسلامية لم تكن مُجردَ نقل وتأويل للفلسفة اليونانية، وإنّما هي فكرٌ إسلاميٌّ نبتَ ونما وعاشَ في ظلّ الإسلام، وعلى هذا النهج تجري مؤلفاتُ جمهرةِ المعاصرين في كل من: أصول الفقه، وعلم الكلام، والتصوف، وسائر فروع الفكر الدينيّ.
وفي الواقع؛ فإنّ ثمة تيارًا رئيسًا أثر بدوره في مدرسة مصطفى عبد الرازق؛ ألا وهو "التيارُ الإصلاحي عند الإمام محمد عبده" بكافة تفرعاته، حيث يُعد الشيخ عبد الرازق وتلامذته من أكثر رواد حركة التجديد تأثرًا بآراء الإمام واضطلاعا برسالته. ومن قلب هذا التيار ظهر زعماء التجديد الذين اتجه بعضهم إلى "التعبئة الروحية والإصلاح الدينيّ" – كما في حالة كل من الأشياخ: محمد مصطفى المراغي، وعبد المجيد سليم، والشيخ الزنكلوني، الذين اضطلعوا بمَهَمات الدعوة، وإصلاح الأزهر وإعادة تنظيمه على نطاق واسع بما يتفق وحاجات العصر الحديث- فيما اتجه بعض آخر إلى تعبئة الحماس القوي في الجيل الناشئ عبر وسائل الصحافة والإعلام والجامعة المصرية – كما في حالة كل من: قاسم أمين، ومحمد حسين هيكل، ومنصور فهمي، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد وآخرون.
وعلى رغم أن الشيخ عبد الرازق تتلمذ في "الفقه والتصوف" على يد الشيخ بسيوني عسل، والشيخ محمد حسنين البولاقي، وفي "النحو" على يد الشيخ محمد شقير، والشيخ محمد الغريني، وفي "البلاغة" على يد الشيخ محمد الحلبي، وفي "أصول الفقه" على يد الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي – شيخ الجامع الأزهر-، والشيخ محمد بخيت – مفتي الديار المصرية-، وفي "المنطق والفلسفة" على يد الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي، والشيخ أحمد أبو خطوة وآخرين؛ فإن أحدًا من أساتذته وخلطائه لم يحِل من نفسه ما حلهُ الأستاذُ الإمام من نفسه، فقد أصبحَ محط نظرهِ ومعْقِدَ رجائهِ ومثله الأعلى الذي ليس له نظير رغم أن العهد لم يَطل بينهُ وبينَ أستاذهِ، فلم يستطع الأستاذ أنْ ينتهي بتلميذه إلى ما كانَ يطمعُ في أنْ يُهيئه له، ولم يستطع التلميذ أنْ يملأ يديهِ حتى يرتوي من منبع العلم والحكمة الذي فجرهُ أستاذهُ أمامَ عينيه.
وفي كل الأحوال؛ غلب على أطروحات المستشرقين المتعلقة بنشأة وتقييم الفلسفة الإسلامية طيلة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين القول: إنّ المسلمين لم يبدعوا فكرًا أو فلسفة؛ وإنما كانوا مجرد ناقلين للإرث الفلسفيّ الإغريقيّ، وأنّ نتيجة جهدهم في هذا السياق ظل مضطربًا في عمومه حيث اختلط لديهم الفكرُ اليونانيّ بالعناصر الشرقية التي لم يحققوا في مصدرها، فضلا عن أنّ اهتمامهم الأكبر ظل مُنحصرًا ببحث جدلية العلاقة بين الدين والفلسفة، ناهيكَ بأنّ أبحاثهم الذوقية قد بقيتْ في مُجملها متأثرة بالمسيحية والإرث الهنديّ… إلخ، وصولا إلى القول: إنّ المسلمين لم يقدموا للإنسانيةِ شيئا ذا بال في مَيدان الفكر الإنسانيّ!!
كان طبيعيًا، والحالُ هذه، أن يصدُر عن روّاد النهضةِ الحديثةِ في بلادنا العربية والإسلامية ردودَ فعل قويّة ومناهضة لهذا الموقف المُتحامل تسعى في مجملها لإثبات أصالة الإنتاج الفلسفيّ للإسلام والمسلمين، سواء من خلال بحث القضايا الفلسفية وبيان مَواطن الابتكار فيها، أو تسليط الضوء على أعلام هذه الفلسفة.
على أنّ اللافت للنظر في هذا السياق، أنّ الذين قاموا بمحاولات التأصيل هذه هم أنفسهم تلاميذ المستشرقين من العرب والمسلمين الذين أتموا دراساتهم في جامعات الغرب وتزودوا باللغات الأجنبية واطلعوا، بفضل ذلك، على تفاصيل تلك الحملة المغلوطة التي أشاعها بعضُ مُستشرقي القرن التاسع عشر حتى أصبحت بمثابة الحكم القطعي.
ومن ثم؛ يمكننا أن نقفَ على ثلاثة مناهج كبرى في دراسة الفلسفة الإسلاميّة، بدوائرها المتعددة، خاصة علم أصول الفقه الذي عدّه الشيخ عبد الرازق من ضمن المباحث الفلسفيّة في الإسلام، وذلك في كتابه "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية"، كانت بمثابة رد فعل جاد وحقيقي على دراسات المستشرقين حيث ارتبطت بثلاثة من روّاد الدّرس الفلسفيّ الحديث، ألا وهم: مُحمّد إقبال (ت 1938)، ومُصطفى عبد الرازق (ت 1947)، وإبراهيم مدكور (ت 1996).
فمنذ أنْ أعلن مُصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلاميّة الأول- دعوتهُ إلى دراسة الفلسفة الإسلاميّة في مظانها الحقيقية، وتلامذتهُ الأوائل قد نفرَوا إلى أعنف موضوعاتها، يدرسونها في تؤدة واتقان، ثم يقدمونها للحياة الإسلاميّة المُعاصرة في صورة متلألئة فاتنة. ونتيجة لذلك؛ ظهرت الأبحاثُ الغنية العارمة من رجال تلك المدرسة، فوضحت قواعدها وثبتت ركائزها، وانطلق كلٌ في نطاقهِ يعْرضُ لأصالةِ الفكر الإسلاميّ في ناحيةٍ من نواحي هذا الفكر.
وتبعا لجهود هؤلاء الأفذاذ المتتابعة؛ انتهت الفكرة الخاطئة التي كانت تقرر عدم أصالة الفكر الفلسفيّ في الإسلام إلى الاندثار، بحيث لم يعد لها مجال يذكر في دراسة الفلسفة الإسلامية بعد أن شغلت حيزًا كبيرًا من جهد وتفكير تلامذة عبد الرازق في العقود: الثالث، والرابع، والخامس، من القرن العشرين. فقد فهم هؤلاء الروّاد الفلسفة الإسلامية باعتبارها التعبيرَ النهائي المُتجدد لأمّة الإسلام، مثلما فهموا الحياة الروحيّة باعتبارها تحقيقا أمثل للعقيدة الإسلاميّة الخالصة الجامعة بين الرُوح والعقل في آن معا، وباعتبارها أيضًا الممثلَ الأصيل لمبحث الأخلاق في الإسلام، وتجسيدا لمقام "الإحسان" فيه.
() أكاديمي وباحث مصري
"المسقبل"




















