لا يكشف التقويم المتشائم الذي رسمه رئيس اركان الجيش العراقي بابكر زيباري جديداً بالنسبة الى عدم قدرة القوات المسلحة العراقية على الإمساك بالزمام قبل سنة 2010. فمنذ حل الجيش العراقي السابق عقب الغزو الاميركي عام 2003، أخفقت الولايات المتحدة في بناء قوات عراقية محلية بديلة.
ولا يبدو ان الجهاز العسكري لعراق ما بعد الغزو الاميركي هو وحده الذي يعاني مصاعب في اعادة البناء. فالمستوى السياسي لا يزال هو الآخر في حاجة الى سنوات وسنوات كي يترسخ في هذا الاتجاه او ذاك. وليس أدل على ذلك من عجز الكيانات السياسية عن التوصل الى اتفاق لتأليف حكومة عراقية جديدة بعد مضي خمسة أشهر على الانتخابات النيابية.
بيد انه لا العجز العسكري الذاتي ولا افتقار المستوى السياسي الى حد أدنى من الاتفاق على تقاسم السلطة، سيشكلان عامل ضغط على واشنطن كي تمدد بقاء قواتها في العراق الى ما بعد نهاية 2011. ولا يعدو التأكيد الاميركي على التزام الجدول الزمني للانسحاب سوى ضغط معاكس تمارسه الولايات المتحدة على الاطراف العراقيين كي يسرّعوا عملية تأليف الحكومة، بحيث تنتفي الاسباب التي يمكن ان تحمل الادارة الاميركية على تمديد وجودها العسكري في العراق.
ولا ينم ذلك طبعاً عن زهد اميركي في التخلي عن مصالحها في العراق، وإنما هي تطمح الى ضمان هذه المصالح من طريق بذل أقل خسائر ممكنة في سبيل ذلك. ويمثل الاتفاق الامني بين واشنطن وبغداد حجر الزاوية في العلاقات المستقبلية بين البلدين. كما لا يلوح في الافق ان اميركا مستعدة للتخلي عن مصالحها الاقتصادية في العراق بمثل هذه السهولة، وإنما تريد ان تحافظ على هذه المصالح ايضاً بأقل قدر من الخسائر، كأن تفعل ذلك من طريق الاتفاقات الاقتصادية التي تأتي الاتفاقات النفطية في طليعتها.
الامر الاكيد في السياسة الاميركية حيال العراق هو الرغبة في الانسحاب العسكري، مع الحفاظ على المصالح الامنية والسياسية والاقتصادية من طريق الاتفاقات المعقودة. ولذلك تسعى واشنطن الى الاسراع في تأليف حكومة عراقية جديدة سيجري في ظل حكمها اتخاذ الترتيبات الضرورية لاستكمال الانسحاب العسكري الاميركي ورسم السياسة التي سيتبعها العراق في ظل استقطابات حادة.
ومنذ الآن بدأ القلق يدب في اسرائيل من اتجاهات الريح العراقية بعد الانسحاب الاميركي. فمن يضمن بقاء بغداد بعيدة عن التجاذبات الاقليمية اذا ما سارت الامور لمصلحة قيام حكومة عراقية مستقلة واستتبت الاوضاع الامنية نسبياً؟ وهناك قلق اسرائيلي دائم من ان يلتصق العراق بسوريا او ايران لا سيما وان استمرار الصراع العربي – الاسرائيلي لا يمكن ان يبقي بغداد منشغلة الى الابد عن هذا الصراع. ولذلك تريد اسرائيل ضمانات منذ الآن عن الدور المستقبلي للعراق.
ولذا لن يكون الانسحاب العسكري الاميركي، الذي يخطو خطوة مهمة بعد اسبوعين، سوى بداية لفتح الصراع مجدداً على ارض الرافدين. فأميركا تريد عراقاً موالياً معتمداً عليها عسكرياً واقتصادياً واسرائيل تريد ضمان بقاء العراق بعيداً عن ساحة الصراع العربي – الاسرائيلي ومنشغلاً بقضاياه الداخلية الى الابد. وفي المقابل لا يمكن العراق ان يبقى منفصلاً عن عمقه الاستراتيجي المتمثل بسوريا والعكس صحيح، في حين من الصعوبة بمكان احتواء النفوذ الايراني الذي نشأ بعد الاجتياح الاميركي وسقوط نظام صدام حسين.
ومهما تعددت السيناريوات التي ترسم للعراق بعد الخروج العسكري الاميركي، فإنه لن يكون في الامكان سلخ العراق نهائياً عن القضايا التي تدور في محيطه. واذا ما قيّض لهذا البلد ألا يذهب في اتجاه التفتت النهائي على خلفية تأجيج الصراع المذهبي والعرقي، فإنه لا بد يوماً من استعادة دوره الطبيعي.
"النهار"




















