يؤكد الرئيس باراك أوباما والقادة العسكريون الأميركيون سحب جيشهم من العراق في التاريخ المحدد (آخر العام 2011).لا خلاف على هذا القرار، لا داخل الجيش ولا في أروقة البيت الأبيض أو الكونغرس. لكن إذا نظرنا إلى خريطة توزع الأساطيل في المحيطات، وإلى القواعد البرية في الخليج وتركيا، نستطيع القول، من دون مجازفة، أن الإنسحاب سيكون مجرد إعادة انتشار، بعدما أُنجزت المهمة. والمهمة، في المناسبة، ليست إخضاع بغداد للإحتلال العسكري المباشر، وتحمل عبء ذلك، مادياً ومعنوياً، بموجب القانون الدولي، بل هي تفكيك العراق إلى دويلات متصالحة تنتقل من التوافق إلى التصادم عندما تدعو المصلحة.
في هذا المعنى أنجزت واشنطن ما انتدبت نفسها إليه. أصبح الشعب العراقي طوائف متناحرة تتنازع السلطة، ومرجعياتها السياسية ليست عراقية. توافقها الداخلي انعكاس للتوافق الإقليمي والدولي. مثل طوائف لبنان تماماً. ولأن الإستقرار مطلوب بعد إعادة الإنتشار الأميركي، حفاظاً على المصالح الأميركية، كان لا بد لواشنطن من دعم حلفائها ليكونوا في موقع القرار. حاولت ابعاد العشائر السنية عن «القاعدة» ونجحت. لكنها اصطدمت بمعارضة شيعية قادها مقتدى الصدر، فحاولت تحجيمه بالقوة. شن رئيس الوزراء نوري المالكي حملة عسكرية على تياره في بغداد وفي الجنوب، ما اضطره إلى الإنكفاء وحل «جيش المهدي»، والإنسحاب من المعركة العسكرية إلى إيران بحجة إكمال دراساته الدينية ليصير في موقع السلطة الدينية بـ»علومه وليس بإرث أبيه وعمه».
كان تحجيم «القاعدة» عسكرياً وسياسياً ممكناً لأنها طارئة على المجتمع العراقي، ركبت موجة الإحتلال لتؤسس «دولتها»، وتنشر أفكارها التكفيرية. أما تيار الصدر فمتجذر في الحياة السياسية العراقية. نشأ من إرث والده محمد صادق وعمه محمد باقر الصدر الذي أسس حزب «الدعوة» على مفهوم ولاية الفقيه، ومعارضة حكم البعث، في سبعينات القرن الماضي. إنكفأ الصدر عسكرياً. لكن تياره بقي ناشطاً سياسياً، واستطاع إحراز فوز في الإنتخابات الأخيرة يفوق فوز أي حزب شيعي آخر، بما فيها حزبا المالكي والحكيم.
شكل التيار معضلة للأميركيين وهم على أبواب مغادرة العراق.لا هزيمته عسكرياً ممكنة لأنه انسحب من المعركة، ولا تحجيمه سياسياً ممكن لأن تياره يحظى بشعبية واسعة في الوسط الشيعي. فكان الحل أن يشارك في الحكومة من دون أن يكون في مركز القرارات المهمة. حاله تشبه حال «حزب الله» في لبنان إلى حد ما. الحزب على لائحة الإرهاب الأميركية لكن لا سبيل إلى إبعاده عن السلطة بسبب شعبيته وتحالفاته الداخلية والإقليمية. أي انه عنصر استقرار بقدر ما هو عنصر عرقلة للمشروع الأميركي فلا بأس أن يكون في موقعه في السلطة إلى أن يحين وقت التخلي عن الإستقرار.
ترتيب الداخل العراقي قبل الإنسحاب مهمة ليست سهلة لكنه ممكن. لذا تدعو واشنطن إلى حكومة «يشارك فيها الجميع»، على ما أعلنت أكثر من مرة. والنفوذ الإيراني يمكن احتواؤه من خلال التوازنات الطائفية والمذهبية. أما المواجهة الكبرى مع طهران فالأساطيل والقواعد، وإسرائيل كفيلة بها.
الإنسحاب العسكري الأميركي من العراق سيحصل في موعده. لكن الوجود الأميركي السياسي والديبلوماسي باقٍ ويتجذر أكثر فأكثر عبر العراقيين ومن خلالهم.
"الحياة"




















