عبّرت الكنيسة المارونيّة اللبنانيّة، وربّما كنائس أخرى، عن غضبها بسبب مسلسل عن «المسيح». والمسلسل هذا كانت قد باشرت بثّه محطّتان تلفزيونيّتان غير مسيحيّتين، إحداهما قناة «المنار» التابعة لـ «حزب الله» التي يكاد بثّها يقتصر على أعمال المقاومة وتعاليم الدين والطائفة.
أحداث كهذه باتت تتكاثر في لبنان وفي مصر، وربّما في بلدان عربيّة أخرى، يظلّلها عنوانان ثابتان: واحد يطال الحساسيّات الدينيّة والطائفيّة المفرطة والمتعاظمة، والآخر يتناول دور المؤسّسات الدينيّة في ما يُفترض أنّه نشاط إبداعيّ أو ثقافيّ بحت.
ومن حيث المبدأ، لا بدّ من التشديد على أن هذا التدخّل، كائناً ما كان مصدره الدينيّ أو الطائفيّ، مرفوض ومدان. وغنيّ عن القول إنّ تاريخ الإبداع هو دوماً تاريخ الحريّة والقدرة على ممارسة الشكّ ومحاصرة اليقين.
مع هذا، وبالنظر إلى الظرف الراهن لدينا، ينبغي ألاّ يسوقنا تسجيل الموقف المبدئيّ إلى السذاجة أو الطوباويّة، وألاّ تفاجئنا حساسيّات تدخّليّة كالحساسيّة التي عبّرت عنها الكنيسة اللبنانيّة.
فما يحصل راهناً إنّما تكتنفه بيئة يضيق فيها التسامح وتنمو الطائفيّات على أنواعها مستوليةً على معنى «الهويّة» ومستحوذة على معنى «الوطن». وهذا ما يتعدّى علاقات المسلمين بالمسيحيّين إلى العلاقات بين مسلمين سنّة وآخرين شيعة، ناهيك عن التناقضات الأخرى ذات الطبيعة الإثنيّة.
ولا يؤتى بجديد حين يقال إنّ التديين والتطييف يتمدّدان اليوم على طول خريطة العالم الإسلاميّ وعرضها. فالسلطات تستقي الكثير من شرعيّتها منهما، ومعظم المعارضات يعارض استناداً إليهما، فيما المقاومات تقاوم لنصرتهما، مستمدّة جمهورها من جمهوريهما. وما بين محمود أحمدي نجاد والملاّ عمر يتحرّك الكثير من المجاري الموصوفة بالسياسة في حياة المنطقة. وهذا ناهيك عن المذابح الطائفيّة والدينيّة الصريحة في العراق وباكستان وغيرهما. أمّا من تبقّى من حداثيّين فبات أغلبهم ينصاع كالخراف، مؤيّداً ومبايعاً أطرافاً نسيتها القرون الوسطى في زمننا الراهن.
وقصارى القول إنّ عالماً كهذا، وعلاقات كهذه، تفصح عن عمق الأزمة التي تعانيها الأكثريّات الدينيّة والمذهبيّة، وعن مدى التراجع الذي أحرزته قوى الارتداد عن التقدّم والتنوير في العقدين الماضيين. وفي ظلّ وضع أسود كهذا، لا يعود من المستغرب أن تتحرّك حساسيّات الأقليّة وأن تندفع في مَرَضيّة مبالغ فيها، يعزّزها ما يحيق بها من مخاوف جدّيّة حيال حضورها ومستقبلها. يكفي استرجاع أرقام الهجرة والنزوح، وأعمال التعدّي والانتهاك، للتيقّن من هذا.
والحال أنّ ما بدأ فرزاً صريحاً «بيننا» (نحن العرب والمسلمين) و «بينهم» (هم الغربيّون) نما، مع الزمن وفي ظلّ النفخ في الكراهية، ليغدو فرزاً بين كلّ طائفة من طوائفنا والطائفة الأخرى. وتماماً كما قيل، ولا زال يقال، إنّ المستشرق لا يحقّ له التعاطي في شؤوننا، أضحت كلّ واحدة من الطوائف تستكثر تعاطي طائفة أخرى في شؤونها وتعامله بكثير من الريبة.
أليس ذا دلالة بعيدة أنّ المسلسل المثير للضجيج من إنتاج جمهوريّة إيران «الإسلاميّة»؟. هل يُستكثر على الكنيسة المارونيّة اللبنانيّة أن تجفل وتغضب؟
"الحياة"




















