المستقبل
ينطلق الكاتب من فرضية مفادها ان المجتمعات التاريخية لا تنشأ إلا في كنف الدولة حيث التنظيم والتراكم لدى فعالياتها الاجتماعية لتتحول تدريجياً الى حالة سياسية تشكل الدول لكن بتنظيمات متفاوتة، ويركز في عملية ولادة الدولة على عنصر المجتمع والفرد المكونات لهذا الكيان، منتقداً في تحليله الفكر الليبرالي (النيوليبرالي تحديداً) والماركسي اللذان وضعا المجتمع بمواجهة الدولة، بحيث ان الأول راح يشجع على تفكيك الدولة بكيانها السياسي بعد ان أثقلها حملها، بمقابل الثاني الذي بالغ في تمسكه بدورها المفرط لدرجة تقديسها عبر إيلائها محورية مشروعه الاجتماعي والسياسي برمته، مع العلم ان للفكرين إنطلاقة مشتركة تنطلق عند حدود نقد الدولة وتوسل المجتمع وانتصاره والتشديد على أولويته، إلا انهما تباعدا في النتائج تدريجياً!
ويعود الى واقع البلدان العربية ملقياً الضوء على الجدل الفكري العقيم والدائر حول فكرة الدولة متسائلاً عن ما كتب في هذا المجال كونه لا يرقى الى مستوى الإنتاج الفكري لفقدانه الى الاتساق المنطقي وبسبب من انتقائيته في موضوعاته ذوات الطابع السياسي والمعطوف على الوصفية بنفس صحافي صرف. فيكاد ان يكون سجال أيديولوجي أكثر منه جدل فكري، ويدعم فرضيته هذه بوصف الفجوة الفكرية التي يعاني منها العرب في مفهوم المجتمع المدني بتصويره مجرد تنظيمات لكل ما يقع خارج نطاق الدولة من مؤسسات اجتماعية، فيعزو أسباب تلك الفجوة الى الفقر المعرفي وضعف الصلة بمصادر الفكر الانساني، فيتسأل "كيف يكون هناك انتاج فكري حول مسألة الدولة اذا كانت المجتمعات العربية تجهل ا كتبه افلاطون، أرسكو، ابن خلدون، روسو، كانط وهيغل" في هذا المجال؟
بالحديث عن الدولة في البلدان العربية، يشدد على أهمية الأخذ بالحسبان مسبقاً ان تطورها ليس مكتملاً بعد، بحيث انها لم تستقر على الحالة التي يناسبها أعمال مفاهيم الفكر السياسي الحديث فيها دون حذر او تحوط، فانتقال الدولة في البلاد العربية الى حالة الحداثة ليس مسألة تاريخية مرتبطة بمقاييس الزمن والتراكم، انما المطلوب لهذه الغاية إعادة بناء المجتمع السياسي العربي على اسس حديثة تقطعه مع موروثه القديم التقليدي (السلطاني تحديدا) وهذا التوجه تعتريه بعض المعضلات تبدأ بتعسر قيام مجال سياسي حديث ومستقل عن المجال الاجتماعي، اضافة الى فقدان الشرعية الديموقراطية والشعبية بمقابل اللجوء الى العنف والاستبداد، ناهيك عن ارادة الحد من وظائف الدولة بفعل العولمة وفقدان الدولة لسيادتها على ثرواتها ومقدراته.
فالدولة والمجتمع العربيان يمارسان بنظرة ادواراً تؤثر بالغ التأثير في عملية تكوين المجال السياسي وتفرز جملة من العوائق تنصب بوجه تكوين الدولة نفسها بمفهومها الحديث، اذ يعرّج على التطور الانمائي والاقتصادي في البلدان العربية الذي لم يتناول البنى السياسية والاجتماعية المتكلسة (تعايش بين نظام اجتماعي عشائري وبين نمط اقتصادي استهلاكي من النوع السائد في اكثر مجتمعات الغرب تطوراً) رغم الانتقاات التي وجهت الى مفهوم الدولة على ايدي المثقفين العرب حيث انحصرت ضمن ثلاث عناوين رئيسية: الموقف القومي العربي الذي يسقط الشرعية عن الدول القائمة كونها نتاج ارادة تقسيمية للاستعمار لا تهدف الا لتمزيق وحدة الأمة، والموقف الاسلامي الذي يطعن في شرعيتها لأنها أتت على أنقاض الخلافة ولا تحكم بما انزل الله، بتصويرها دولة لائكية (laique) تفرض على المسلمين احكاماً خارجة عن شريعتهم، وحدهم الليبراليون العرب الذين انفردوا بالاعتراف للدولة بشرعيتها ورأوا فيها كياناً ضامناً للحقوق وللحرية الاقتصادية والفردية..
الا ان الدولة لم تنجح في سد تلك الذرائع، ولو ان قسما من النخب الثقافية اعترف بها، بل زادت انكفاء وانهارت الفكرة العربية اثر انفجار المد الاسلامي بحيث ارتفعت معدلات ارتهانها للأجنبي، وبالتالي فشلت جميع الطروحات ولم يكسب احد منها أي معركة!
فكانت عملية التوحيد الوطني في البلدان العربية المعاصرة متعثرة بتأثير عدة عوامل أبرزها ثقل الموروث الاجتماعي القديم الذي صب مقاومته لأي اندماج اجتماعي وطني بفعل ديناميات السياسة التي أنتجتها البنية الاجتماعية الفسيفسائية التي زادت الدولة ضعفاً وارتهاناً للعصبيات، زيادة الى هشاشة الدولة التي اختارت التحديث بواسطة العنف القسري والتوحيد النابذ. فتصوّر الدولة لنفسها على أنها مجرّد أداة للقمع في يد نخبة بمواجهة المجتمع شكل عجز فادح وفهم مغلوط حيال تلازم القوة والشرعية لتطبيق القانون من خلال السيطرة (Domination)، هذا الخلط بين مفهومي السلطة والدولة يعرّض الدولة على الدوام الى عدم الاستقرار والنيل من وظائفها العمومية تحت عنوان الدفاع عن حقوق المجتمع، ناهيك عن سوء الفهم الحاصل بين ما يسمى مجتمع مدني ومجتمع أهلي الذي يستقطب الطابع المذهبي والحزبي الفئوي والبعيد كل البعد عن المجتمع المدني الأصيل الذي ينمو ويترعرع في ظل الدولة الحديثة.
فالانقسام الثقافي الحاصل داخل المجتمعات العربية مرده الى عوامل داخلية وخارجية تبدأ بأزمة المشروعية السياسية الناتجة عن سوء الاندماج الاجتماعي، بسبب هشاشة بناها وغياب أي مشروع مجتمعي مشترك ومتوافق عليه من قبل جميع الأطراف، أضف الى ذلك الإخفاق الذريع الذي أصاب المشروع الثقافي العربي النهضوي المتمثل بالاصلاح الديني الذي زاد فيه منسوب التزمت والتعصب، بالتزامن مع تدخلات الخارج الداعية الى الاستقطاب والاصتفاف القائمين على العلاقات العصبو ـ قبلية المنحدرة من القرون الوسطى.
إن القاعدة الرئيسية لتحصيل القبول والرضا الاجتماعي تتطلب بالمبدأ عنصر الاستحواذ على القدرة التي تقود الى الإقناع والإخضاع في إطار مجموعة من القيم والأفكار التي تشكل كلها مجتمعة ما يسمى "الإيديولوجيا" التي ترسي الولاء للدولة بصورتها العادلة.
بالمحصلة يستنتج وبإيجاز، أن التنمية والديموقراطية هما أقصر السبل الى إنجاز عملية التوحيد وبناء الدولة من خلال الاندماج الاجتماعي والانتقال من المجتمع الأهلي الى المجتمع المدني الحديث، الموثوق بعقد اجتماعي متين والمطعّم بإصلاح ديموقراطي يرسي المواطنة الحقيقية. فهل هذا ممكن؟؟
[ الكتاب: الدولة والمجتمع (جدوليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر)
[ الكاتب: عبد الإله بلقزيز
[ الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2008