“ايه، في أمل”، صدح صوت فيروز في البيال، فوصلت اصداؤه الى شعب تونس أولاً، ومصر لاحقاً، لتنعش الأمل في نفوس اليائسين من التغيير الديموقراطي في الدول العربية، بعد أن طال أمد تسلط الأنظمة الاستبدادية فيها، ولو اختلفت تسمياتها، وأثبتت أن قوانين علم الاجتماع التحليلي تخضع لحركية المجتمعات وليس العكس.
فالأنظمة العربية دون استثناء، هي أنظمة استبدادية، أمنية وعسكرية، وهي بطريركية، إذ تحكم من خلال تسلط أفراد مطلقي السلطة، ممثلين لطوائف أو عائلات أو قبائل أو أحزاب شمولية سياسية ودينية، تمارس الفساد ولا تحدّ طموحاتها قوانين ولا تخضع للرقابة الشعبية، وتستمد قوتها وديمومتها، داخلياً من أجهزتها الأمنية والاستخبارية ومن تجنيدها لفئات واسعة من شياطين غير خرس (مستفيدين ومستزلمين وموظفين ومثقفين وصحافيين)، ومن قمع الحريات وزج الناشطين في السجون وتخويف المعارضين، وخارجياً من دعم القوى الغربية تحت شعار عدم السماح للإسلام السياسي باستلام الحكم، ومن دعم بعضها بعضا.
تميّز زلزال الثورتين الاعتراضيتين بالتشابه مضموناً، من حيث الدور الريادي الدينامي الذي لعبه مواطنون أحرار من الطبقة الوسطى (محامون، مثقفون، عمال، نقابيون، جامعيون)، ومن حركات شبابية مستقلة، ناشطة في مجتمع مدني افتراضي، غير منظّم، ومن أقلية حزبية مؤدلجة علمانية، قومية واسلامية، ومن حركات غير مؤدلجة، منضوية في مجتمع مدني منظم، التحقت بالثورة ولكن من دون دور قيادي أو تنظيمي أساسي فيها، كسرت حاجز الخوف، ونزلت الى الشارع حاملة شعارات مطلبية داخلية بحتة، تهدف الى التغيير الديموقراطي والعدالة والمساواة واستعادة الكرامة الانسانية، متخلية بذلك عن شعارات ايديولوجية واستراتيجية طبعت الثورات السابقة، ولم تنتج لها سوى التخلف والانحطاط، وللأمّة الانكسارات والنكسات، والمزيد من القمع الداخلي والتبعية للخارج، مع الاختلاف شكلاً، تبعاً للخصوصيات التي تطبع كلا المجتمعين، من حيث المساحة والعدد، وقوة المجتمع المدني أو الديني، وطبيعة الدستور وعلاقته بالمؤسسات الدينية والمدنية، والامكانيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها. وفي هذا الإطار استقطبت مصر بشكل أكبر ترقباً شعبياً ورسمياً عربياً واقليمياً ودولياً، نظراً الى تأثيرها الريادي في نشر الأدب والثقافة، ولدورها المركزي في رسم صورة الشرق الاوسط الجديد بأنظمته وتحالفاته وصراعاته الاقليمية والعربية والعربية-الاسرائيلية، مما يفسر الاهتمامين الاميركي والايراني الكبيرين بالتغييرات المصرية الداخلية. فأميركا لن تسمح بتغييرات جذرية تعرّض مصالحها ومصالح اسرائيل للخطر، وإيران ترى فيه فرصة لخلق شرق اوسط اسلامي، تخوض مع حلفائها من خلاله حربها ضد الولايات المتحدة، والخوف من تحويل مصر ساحة لهذا الصراع.
هزّت الثورتان فرائص كل الانظمة المشابهة، التي بدأت تتحسّس رياح التغيير المقبلة عليها، فتداعى بعضها للاشادة بانجازاتها ليس تمثّلاً بها بل خوفاً على نفسها من تكرارها في بلدانها، وهكذا شرعت ايران بالمطالبة باسقاط النظام المصري، متناسية انها أيضاً دولة دكتاتورية استبدادية، سحق “باسدرانها” و”باسيجها” الثورة الخضراء السلمية المعارضة والمطالبة بالحرية، والذي أقلّه لم يحصل (حتى الآن) في مصر.
وفي لبنان بدأت قوى سياسية شريكة اساسية في نظامه وفساده السياسي وحليفة لأنظمة مشابهة، باطراء هذه الثورات واسداء ما يمكن من النصائح، ظناً منها انها احزاب ثورية وتغييرية، واجتهد اصحاب كلمات، وصحافيون ومثقفون بتحليل وتشريح هذه الثورات وبشرونا بقرب انتهاء انظمة دولها الاستبدادية، متعامين قصداً وخوفاً عن انها موجهة اصلاً ضد اترابهم ومشابهيهم من النظم الاخرى.
اما بالنسبة لتشبيه بعضهم ثورة الارز بتلك الثورتين، فهو يظلم هذه الشعوب الجريئة بعد ان ظلم شعب انتفاضة 14 آذار، التي كانت انتفاضة فريق من السلطة حمّل جماهيره الغفيرة، المتطلعة الى الاصلاحات والتغيير الديموقراطي، شعار الحرية والسيادة والاستقلال، لإخراج الوصاية السورية، واعداً اياها بتحقيق دولة القانون والمؤسسات فور تحقيق ذلك، محمّلاً الوصاية المسؤولية الاساسية للفساد، وكونها العائق امام أي عملية تغييرية، وذلك في لحظة تقاطع مصالحه الداخلية مع الخارجية.
بعد الخروج السوري بقليل، بدأت الخلافات تدب بين قيادات الانتفاضة السلطوية، ليس على خلفية أولويات تحقيق دولة القانون او الاصلاحات، بل على أحقية قيادتها، خرج على أثرها العماد عون العائد من منفاه الباريسي مع تياره من صفوفها. في هذه الاثناء كانت قيادات الانتفاضة المدنية، تستقرىء هذه الانحرافات، فطالب سمير قصير بانتفاضة على الانتفاضة، وشاركه بذلك جبران تويني وجورج حاوي، وللمفارقة، فقد جرى اغتيال هذه الشخصيات الثلاث تباعاً. والواضح ان هذا الاغتيال تم بهدف إضعاف الوجه المدني والتغييري الديموقراطي في الانتفاضة، والابقاء على الوجه السلطوي فيها، وهي خطوة تشي بضرورة إعادة تصويب اللعبة الداخلية حسب الخطة الموضوعة من قِبل الراسمين لوجهة لبنان المقبلة ولتي بدأ تنفيذها باغتيال الرئيس الحريري.
واستمرت لاحقاً تراجعات الانتفاضة ومساوماتها، فكان التحالف الرباعي بداية، واجراء الانتخابات على اساس قانون 1960، وحصولها على الاكثرية، وفقدانها لها لاحقاً وصولاً الى تفككها الأخير، مما اعادها الى مكوّناتها الاولية، المذهبية الطبيعية، والتي سارعت كل واحدة منها لرفع شعاراتها الخاصة بها، بما هي اولوية لصون مكتسباتها السلطوية، ولإستمرار وجودها السياسي المذهبي، والحفاظ على خصوصيته. كل ذلك نتيجة تكتيكات الفريق الآخر، الخصم وعماده “حزب الله”، المستخدم اساليب الترغيب والترهيب والتخويف.
في هذا السياق، رفع جنبلاط شعار الحفاظ على خصوصية بني معروف، بعد تموضعه الأخير، على حساب شعار المحكمة، ومتجاهلاً رأي قاعدته المذهبية. هذا بينما ادّى تمسُّك سعد الحريري به، الى خسارته كرسي الرئاسة، ممّا استدعى ردة فعل من جمهوره تميّزت بالمذهبية والغرائزية، وكانت عنيفة في بعض جوانبها، وأرجعتنا الى زمن “الرافضة” و”الناصبة”. اما بعض المكوّنات المسيحية لهذا الفريق، فهي حائرة ومتأرجحة بين التطلّع الى الانفتاح والتعاون مع مسيحيّي الفريق الآخر والمشاركة في الحكومة الجديدة، وبين الحفاظ على شعار المحكمة.
خلاصة القول، أن أي عملية تغيير في لبنان لن تحصل ما لم يتحرر الشباب اللبناني من عائقه الوحيد وهو الطائفية، أي ان ينفض عنه النظام الابوي البطريركي المتمثّل بزعماء الطوائف، ويختار قياداته من صفوفه، ويبني وطناً يشبهه ويلبّي طموحاته.
تحية لثورة تونس الحرة، ولشباب مصر، وعلّهم يُوفقون في تحقيق ثورتهم، وعلّ عدواها تنتقل الى الشعوب المسحوقة.
(طبيبة)
“النهار”