آلاء الشماحي، أو Ella Al-Shamahi كما تُعرف في بريطانيا، مستكشفة، وأنثروبولوجية مختصة في أصول البشر والإنسان الأقدم، والتطوّر الحيوي؛ وتقدّم على BBC2 حلقات بعنوان «نياندرتال: تعرّفْ على أسلافك». كما قدّمت برنامجاً لافتاً بعنوان «ساعة الجسد: ما الذي يجعلنا ندقّ؟» حاولت فيه رصد إيقاعات الجسد اليومية وكيف تؤثر في حياة البشر وإمكانية التحكّم بها أو ضبطها، وذلك من خلال حبس كوماندو سابق في ملجأ نووي مهجور، بقي منقطعاً تماماً عن الزمن والعالم الخارجي طوال عشرة أيام. إلى جانب هذا، تمتهن الشماحي كوميديا الوقوف أمام الجمهور، وهي أمينة «الرابطة الدولية لدراسة جزيرة العرب» ربما بسبب أصولها العربية التي تعود إلى اليمن وسوريا.
لكنّ هذه السطور تتوقف عند جانب آخر في شخصية الشماحي، هو كتابها الجديد «المصافحة: تاريخ أخاذ» الذي صدر بالإنكليزية مؤخراً ضمن منشورات Profile Books في لندن. موضوعاته تبدأ من حكاية المصافحة، وأين بدأت، ولماذا؛ ولا تنتهي (كما يخال المرء من محتوى الفصل السابع والأخير) عند محاق المصافحة، ليس بسبب جائحة الكوفيد وإجراءات التباعد وحدها.
كتاب الشماحي بحث بانورامي يمزج بين علوم الاجتماع والنفس والسلوك، وما تقترن به من وشائج مع الأسطورة والرموز والطقوس والسرديات؛ تتباين في مستويات العمق أو التأثير المتبادل، ولكنها تلتقي دائماً عند الإنسان
وإذْ تؤكد الشماحي، منذ السطور الأولى في الواقع، أنّ المصافحة ملمح كوني عابر للعصور والجغرافيات والثقافات، إذْ يُغثر عليه بأنساق شتى لدى قبائل قاطنة في أقاصي العمران ومنعزلة عن العالم الخارجي؛ فإنها تحرص على تصحيح سلسلة من التنميطات الشعبوية التي اكتنفت تأصيل المصافحة من زاوية أحادية هي أنّ الغرب أدخلها إلى العالم خارج أوروبا وعبر البعثات المختلفة أو حتى عادات جماعة الـ«كويكرز» وهذه بالطبع نظرة استعمارية واستشراقية تستهدف تأكيد تفوّق الغرب على العوالم خارجه كافة، وتعيد تثبيت المقولة العتيقة حول «عبء الرجل الأبيض». المصافحة كانت رائجة في أزمنة سابقة على الرومان والإغريق وحتى حضارات بلاد الرافدين، وليس غريباً أن يسعى الفصل الأوّل من كتاب الشماحي إلى الإجابة عن السؤال الجسور: هل كانت المصافحة شائعة لدى إنسان النياندرتال؟ والأصل، أو بالأحرى فارق الإنسان عن الحيوان، هو فارق الشمّ عن المصافحة: بينما يميل الحيوان، من الكلاب إلى النمال، نحو تشمّم قرينه؛ فإنّ إنسان المحطات الفضائية وستيف جوب يميل إلى مصافحة قرينه.
أبحاث أخرى تتصل بلغة الجسد، من زاوية المصافحة تحديداً، لحظت الفوارق النفسية بين شخصين يتصافحان، في مقابل أشخاص يرقبون فعل المصافحة؛ فاتضح، حسب مَخْبر العلوم العصبية في جامعة إلينوي الأمريكية، أنّ ابتداء تواصل اجتماعي ما بالمصافحة يطلق مناخاً إيجابياً لدى المتصافحَين والمراقبين للمصافحة في آن معاً، بل تأكد أيضاً أنه يقلّل من الانطباعات السلبية المسبقة. لكنّ الفعل في حدّ ذاته ليس مظهراً إلزاميا راسخاً في قاموس لغة الجسد، بقدر ما هو تعبير رمزي/ سيكولوجي عابر للأزمنة والأمكنة، وهو بذلك مفردة ثقافية لا يجوز تضخيم آثارها إلى مزايا ومحاسن تارة أو نواقص ومساوئ تارة أخرى. وكان في وسع الشماحي، هنا تحديداً وفي سياق التفسيرات الاستشراقية للمصافحة، أن تقتبس واقعة شهدتها فرنسا مؤخراً ضمن الأجواء الهستيرية حول الحجاب، من زاوية اعتبار المصافحة «قيمة جمهورية» وأنّ رفض المرأة المسلمة مصافحة الرجال إنما ينتهك المبادئ العلمانية.
ولا تغيب عن كتاب الشماحي عروض معمقة لأصناف المصافحات، وكيف لكلّ صنف وظائفه وغاياته ومراسمه، وأنّ التوقيتات ليست حاسمة وقاطعة وقارّة فحسب، بل إنها أحياناً أبعد أثراً من الفعل ذاته، خيراً كان أم شرّاً؛ وهذه معادلة تسري على مصافحة الـ»بزنس» أم الرياضة، أم السياسة، أم العشق. وشتان، في هذا الصدد، بين مصافحة الليدي ديانا لمريض مصاب بـ»الإيدز» ومصافحة رونالد ريغان وميخائيل غورباتشيف، أو مصافحة مارتن لوثر كنغ ولندن جونسون بالمقارنة مع ملامسة المرفقين بين كامالا هاريس وجو بايدن ساعة إعلان الفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
الأطرف، ولكن ذاك الذي لا يقلّ رصانة وجهداً في البحث، هو خاتمة الكتاب التي لا تتردد الشماحي في تصنيفها تحت خانة الـEpilogue بما تنطوي عليه المفردة من دلالات متعددة متنوعة؛ حيث ترصد، وبالتالي تقترح، سلسلة «مصافحات» قد تصلح بدائل عن مصافحة اليد التقليدية والتاريخية، وقد تعيد لهذا الملمح الإنساني بعض وظيفته ومعناه ومغزاه، وكذلك براءته البدئية التي شاءت الجائحة أن تقصيها أو حتى تدفع بها إلى انقراض. هنالك الملامسة بقبضة اليد (التي كان باراك وميشيل أوباما قد استبقا بها الكوفيد في مؤتمر الحزب الديمقراطي سنة 2008) والملامسة بالمرفق، وتحية «القوة السوداء» التي اشتهرت أوّلاً في أولمبياد 1968، والمصافحة الذاتية في صورة السيلفي، وإيماءة الـ»شاكا» ويد الجاز (التي تنعقد على الصدر ثمّ تتماوج) ومصافحة ووهان (السوق الشهير الذي يُنسب إليه مصدر الفيروس، والملامسة تتمّ بالقدمين هذه المرّة) ومصافحة وكاندا (نسبة إلى فيلم «الفهد الأسود») وملامسة القبعة، والانحناءة اليابانية…
كتاب الشماحي بحث بانورامي تعددي يمزج بين علوم الاجتماع والنفس والسلوك والبيئة، فضلاً عن الأنثروبولوجيا بالطبع، وما تقترن به من وشائج مع الأسطورة والفولكلور والرموز والطقوس والسرديات؛ تتباين في مستويات العمق أو التأثير المتبادل أو البقاء والديمومة، ولكنها تلتقي دائماً عند الإنسان، سواء في حاجاته ومعيشه ووجوده، أو في ممارساته الإبداعية والخَلْقية والتخييلية عموماً.
“القدس العربي”


























