بعد قمة بايدن-بوتين لم يعد المستثمر الروسي طليقاً في القضية السورية، وإن مالت الكفة الأمريكية صوب قراءته، وتراخت في سماع ما يريد إخراجه من الصراع، ومشت في مخرج مسار سوتشي/اللجنة الدستورية، لا لقناعة بل مداراة حيناً ومناورة حيناً واستمرار استنزاف وهم الروس في الحصول على كل شيء مقابل لا شيء غالب الأحيان، بعدما أغلقت روسيا كل المنافذ للولوج السليم صوب تنفيذ القرار الأممي 2254، وجعلت من اللجنة الدستورية بوابة وحيدة للحلّ، فوضعت العربة أمام الحصان، وقدّمت ما حقّه التأخير واقعياً وموضوعياً لهدفها السياسي المتمثّل في تدوير الزمن ليكون أكثر مناسبة لتدوير النظام بعد تزيينه دستورياً وتثقيله بانتصارات عسكرية، وخنقه بمزيد من القيود الاقتصادية والضربات الإسرائيلية؛ لدفعه أكثر للارتماء في الحضن الروسي دون سواه.
وعلى الرغم من الفشل في خمس جولات، مازال الروس يغذّون السير عكس المنطق، فيضغطون على النظام للانخراط في متاهة مفاوضات الجولة السادسة، وهي خطوة أذعن لها رئيس سلطة الأمر الواقع بعد جلبه إلى روسيا وإبلاغه تعليمات ما يجب عليه تنفيذه، أملاً في خطوة مجزية، تساعد في تدويره كأي نفاية، إن على مستوى التطبيع مع العرب مقدمة لشرعنته، أو فتح ثغرة جديدة في قانون قيصر يمكن التسلل عبرها لاستجلاب أموال إعادة الإعمار، فيلزمون العالم بما لا يلزم، ويجعلون من اللجنة الدستورية محطّ الآمال، وهم أول العالمين أن دستوراً حضارياً وملائكياً، مُفتَتَحه يضمن الحريات، ومنتهاه يؤكّد فصل السلطات، لن يكون إلا مشجباً لمزيد من القهر والمعاناة للسوريين، وتوغّلٍ لاستبداد نظام الإبادة الأسدي. ولن يصلح الروس ما أفسدته المافيا الأسدية، ما دامت هي المعوّل عليه.
سنتان و5 جولات – والمقرّر أن تنتهي خلال 6أشهر- لم تفلح إلا في منح النظام وحلفائه مزيداً من إمكانية استعراض البهلوانيات والألاعيب واقتناص الفرص في إظهار أن ما حدث ويحدث في سورية، إن هو إلا فعل إرهاب خارجي استطاع النظام وحلفاؤه النصر عليه، بعد استجلاب ميليشيات طائفية أو تصنيع ميليشيات قومية، احتلالات روسية تركية إيرانية أمريكية راحت تعمل على تصفية حساباتها على الأرض السورية وبالدم والسوري، تتحالف حيناً وتتناقض حيناً، وكلّ يريد تحسين مواقعه بانتظار العشاء الأخير.
هذه الجولة تكتسي أهمّيتها من جملة متغيّرات أبرزها تمكّن حلفاء النظام “روسيا وإيران” من شرعنته بانتخابات صورية لم يعترف بها العالم، وتمكّنه من التمدّد مساحات جديدة عبر المقايضات الروسية التركية، بالإضافة لاستغلال الوضع الإنساني في المساومة السياسية “تمديد العمل بالمساعدات الإنسانية عبر الحدود” واستغلالها لفتح ممرات بينيّة وإنعاش مشاريع التعافي المبكر، وفوق هذا وذاك تنامي العمل لتعويم النظام والتطبيع معه بمسوّغ تخفيف العبء الاقتصادي عن جيرانه، وهو ما يدفع أمريكا لإغماض العين عن اختراق قوانينها “قيصر”، وإسقاط المصالحات والتسويات في الجنوب، ومحاصرة الشمال الغربي بما يحويه من ملايين النازحين لتطويع المنطقة وسلاحها، ولكن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق في إطار تبديل أولويّاتها، وإرجاء سحب قواتها من سورية عاماً آخر، المتغيّر الأبرز الدافع لكل الأطراف كيلا يكون الفراغ الأمريكي ورقة للصراع بين قوى الأمر الواقع في الشرق والشمال الشرقي لسورية، في الوقت الذي تحشد فيه مختلف القوى لاستثمار الحدث المنتظر. لذلك ينشط بيدرسون في تجواله بين العواصم الفاعلة والمؤثّرة لإعطاء زخم يحقّق لجولته الراهنة اختراقاً ما، على الرغم من اعترافه أن مسار اللجنة الدستورية غير كاف لإنجاز حلّ ما للمعضلة السورية وتشعباتها، ومخرجات حروب قد لا تتوقّف عمّا قريب.
إنّ نظاماً مافيوياً إبادياً لا يمكن أن يتنازل في أوج شعوره بقوته عمّا لم يتنازل عنه في أوج ضعفه، مستنداً إلى المزيد من قهر المدنيين المرتَهنين لاستبداده وطغيانه، والمزيد من المعاناة الاقتصادية والإنسانية، عبر المزيد من جرعات التخويف والتجويع والتعفيش والتفقير، ومعتمداً على لامبالاة العالم بمعاناة ملايين السوريين، إن لم نقل “تواطئه” في كلّ ما يحدث.
الجولة السادسة للجنة الدستورية خطوة شكلية، أرادتها روسيا طُعماً لخطوة أمريكية مقابلة، ولن تحقّق حدّها الأدنى المرغوب سياسياً من الشعب السوري، لأن المناورة والتعطيل والمداورة ستطغى، وقد سبق ذلك الإقرار ببقاء النظام والاكتفاء بتعديل سلوكه المحرج لهم.
- رئيس التحرير