حتى وقت قريب لم تكن فكرة انضمام فنلندا أو السويد لحلف شمال الأطلسي مطروحة على طاولة البحث، وكانت كل من استوكهولم وهلسنكي تكتفيان بموقفهما التاريخي المبني على الحياد، ورفض الانضمام لأي حلف معادٍ لروسيا.
الحرب الروسية على أوكرانيا دعت لإعادة التفكير في هذه السياسة، حيث كانت أهم الأسباب التي شجعت روسيا على اكتساح جارتها هو كونها خارج مظلة حلف الناتو، الذي يضمن حماية جماعية لأطرافه. هنا لاحظنا أن نسبة المتحمسين للانضمام للحلف من بين المواطنين في البلدين قفزت بشكل سريع، مما هو أقل من عشرين أو عشرة في المئة إلى ما يتجاوز السبعين في المئة، وهو ما يوضح أن هناك رغبة شعبية داعمة للانضمام.
أعلن البلدان بعد ذلك رغبتهما وتشاورا مع عدد من الدول، قادة الحلف أبدوا بدورهم حماسهم وعبروا عن إمكانية إجراء تسريع استثنائي لإجراءات القبول، بما يكفل توفير حماية سريعة في حالة حدوث أي رد فعل روسي غاضب.
على الأرجح لم يكن البلدان اللذان فكرا في الحصول على إجماع داخلي وفي الحصول على موافقة أوروبية يفكران برأي تركيا، أو يتوقعان أن تكون رافضة لانضمامهما وهو ما حدث حين عبر الرئيس التركي عن تحفظه على انضمام السويد وفنلندا معتبراً أنها ربما لا تكون فكرة صائبة في الوقت الحالي. أردوغان مضى لأبعد من ذلك حين رفض أن يتم استقبال قيادات البلدين من أجل التشاور في الأمر.
وفق قوانين الحلف فإن الحصول على موافقة جميع الأعضاء مهم لقبول العضوية، وتركيا ليست مجرد عضو وإنما تعد العضو الأهم استراتيجياً بفضل موقعها وما تمتلكه من قوة عسكرية، هذا يعني أنه، إذا استمر الفيتو التركي، فلن تكون هناك إمكانية للقبول. مقابل ذلك أبدت دول أوروبية أخرى استغرابها من الموقف التركي، وتم اتهام تركيا بموالاة روسيا وبأنها وسيط غير محايد، لكن المنطق التركي كان واضحاً وهو أنه لا حاجة الآن لفتح جبهة جديدة، أو السعي لاستفزاز روسيا والاعتماد على أنها لن تكون قادرة على تشتيت جيشها، فمثل هذه التطمينات هي التي جعلت أوكرانيا من قبلها تصعّد متحدية، ما أوصل الأمور إلى الحالة المأساوية التي هي عليها حالياً. بالتأكيد فإن الأزمة هي أعمق بكثير من كل ذلك، فالبلدان يختلفان مع تركيا، ومثلهما في ذلك دول غربية أخرى، حول تعريف “الإرهاب”. حزب العمال الكردستاني الذي يلقى أعضاؤه وناشطوه الكثير من الحماية والدعم من استوكهولم وهلسنكي، مصنف إرهابياً من قبل أنقرة التي تطالب منذ فترة طويلة بتسليم مطلوبين موجودين على أراضيهما. وفق ما تم إعلانه، تسلم البلدان 33 طلباً بشأن تسليم أفراد منتمين لتنظيمات إرهابية، من دون أن يجد ذلك استجابة. من ناحية أخرى تعلق السويد التعاون العسكري مع تركيا منذ عام 2019 تعبيراً عن رفضها للعملية التي يقودها الجيش التركي في شمال سوريا، هذا يجعل الإرهابيين الملاحقين والذين تعتبرهم أنقرة خطراً عليها حلفاء لاستوكهولم.
اتهمت تركيا بموالاة روسيا، برفضها انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو، لكن المنطق التركي كان واضحاً وهو أنه لا حاجة الآن لفتح جبهة جديدة، واستفزاز روسيا
هل يمكن أن تكون تركيا أقرب فعلاً لروسيا؟ بالنظر إلى الطريقة العدائية التي كان يتم التعامل بها معها من قبل الشركاء الغربيين، التي وصلت حد دعم بعض دول الناتو لجماعات تتهمها أنقرة بالإرهاب وزعزعة الأمن، فإن ذلك ممكن. يمكن التفكير أيضاً في أن تركيا القومية والمحافظة والرافضة للقيم الليبرالية الأوروبية بشكلها المتطرف، الذي يعيد تعريف الأسرة ويمنح كل الأفكار والممارسات حرية الانتشار مهما بدت شاذة، تبدو أقرب في هذا من الموقف الروسي الذي يرفض التخلي عن القيم الدينية الأرثوذكسية لصالح الحداثة الغربية. شبيه بالبلدين في ذلك أيضاً موقف الرئيس المجري فيكتور أوربان، الذي يرى أن من حق أي دولة أن تحتفظ بهويتها وأن تعتز بدينها، موقف جعل الرجل متهماً بالعنصرية والتشدد الديني ومحاربة حرية الاعتقاد. تتشارك تركيا مع روسيا في تقاطعات سياسية واقتصادية كثيرة، لكن هذه الحقيقة لا تجعلنا ننسى أنها أيضاً صديقة مقربة لأوكرانيا، التي كانت الطائرات المسيرة التركية “بيرقدار” من أهم أسباب صمودها، في وقت كانت الدول الأوروبية الأخرى تتردد في منحها أبسط معدات المقاومة العسكرية. من الناحية الاستراتيجية نقول إنه ليس من مصلحة تركيا أن تنتصر روسيا بشكل حاسم، وأن تفرض منطقها، لأن هذا يعني أنها قد لا تكون هي نفسها في مأمن من نيرانها في المستقبل، وهو ما يصح أيضاً قوله في حالة تحقيق الحلف الغربي لانتصار ساحق، ففي هذه الحالة أيضاً لن يكون هناك ما يضمن ألا يحاول ذلك الحلف افتعال أي ذريعة من أجل السيطرة السياسية أو العسكرية على تركيا، التي يرى أن كثيراً من سياساتها لا تتماهى مع رغباته. لهذه الأسباب فإن اتهام تركيا بأنها منحازة بشكل تام إلى روسيا غير واقعي، أما إذا كانت الدول المعنية تطالب تركيا اليوم بفهم احتياجاتها الأمنية، فإن الأخيرة تذكرها بأنها لم تتفهم احتياجاتها حينما طالبت بوقف التعاون مع المجموعات المسلحة المعادية، أو حينما طالبت بإنشاء منطقة عازلة في سوريا، أو بمنظومة متطورة لصد هجمات الانفصاليين، كما تذكر كذلك بالتلكؤ والمراوغة التي امتدت لسنوات معرقلة الحصول على المقاتلات الأمريكية. هنا يمكن أن تكون تركيا متفقة مع روسيا في ضرورة إيجاد صيغة للأمن الجماعي تكون مرضية لجميع الأطراف. تذكّر هذه الأزمة بالعلاقة المعقدة التي تجمع تركيا بحلفائها الغربيين الذين يطلبون تعاونها ومساهماتها حينما يحتاجونها، ويتجاهلون مطالبها حينما تطلب هي منهم العون أو التعاون. ظهر هذا بشكل واضح إبان الأزمة الأوكرانية، حيث تطلع الجميع إلى أنقرة باعتبارها الأقدر على التدخل والوساطة البناءة، بسبب العلاقة التي تربطها بموسكو. في الوقت ذاته لم يعر الحلفاء اهتماماً لما كان الأتراك يطرحونه من طلبات، سواء ما تعلق منها بالنظر بجدية في انضمامها للاتحاد الأوروبي، أو بتعزيز التعاون العسكري والموافقة على تسليمها ما تحتاج من معدات عسكرية، بل إن الأمر ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لدرجة القول إن بعض الحلفاء ربما كان يتمنى أن تفشل تركيا في مهمتها التفاوضية، حتى لا يمنحها ذلك نقاطاً إضافية في رصيدها.
في ظل هذه العلاقة الملتبسة بين تركيا وشركائها يفرض سؤال بسيط نفسه وهو: هل من مصلحة تركيا فعلاً أن يمتد الحلف ويصير أقرب إلى حدودها، بما يعنيه ذلك من عسكرة في الجوار؟
في لقاء أجرته معه مجلة “نيوزويك” في عددها الأخير، وفي تعليق له حول الأزمة الأوكرانية وتداعيات الاجتياح الروسي، اعتبر الأمين العام السابق لحلف الناتو راسموسن، أن على الدول أن تختار ما بين الاصطفاف مع الاستبداد أو الديموقراطيات. يذكر هذا بخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن الذي كان يقسم العالم لمحور خير ومحور شر. هذا التقسيم سوف يفرض ضغوطاً على دول كثيرة، بما فيها تركيا التي قد تجد في نهاية المطاف ألا مفر من قبول فنلندا والسويد وإن كانت ستسعى لأن لا يكون ذلك بلا مقابل.
*كاتب سوداني
“القدس العربي”