سبق لي أن قارنتُ بين حالة مقتدى الصدر في العراق وحالة ميشال عون في لبنان، لجهة المزاجية التي تحكم السلوك السياسي للرجلين، مستندين إلى ولاء أعمى لجماهيرهما، و”كاريزما” إشكالية تجعلهما محبوبين الى حد الجنون من أتباعهما، ومكروهين إلى حد النفور من خصومهما.
لكن القرار الأخير لمقتدى الصدر، المتعلق بانسحابه من العملية السياسية في العراق، بعد نيله أكثرية نيابية لجهة عدد نواب كتلته في الانتخابات الأخيرة، يغري بنسج مقارنة بين الصدر وسعد الحريري، الزعيم السني اللبناني، الذي استبق الانتخابات النيابية الأخيرة وأعلن تعليق عمله السياسي ومشاركته مع تياره بالسياسة اللبنانية.
ومع اختلاف الظروف والوقائع، إلا أن الرجلين تجمعهما نقاط مشتركة في تماسهما مع السياسة، كل في بلده، وصولاً إلى اتخاذهما القرار نفسه بالانسحاب من العمل السياسي بسبب وصولهما إلى حائط مسدود.

والحريري أيضاً، ورث السياسة بعد مقتل أبيه رفيق الحريري في اغتيال سياسي عام 2005، وإن كانت يداه لم تتلطخا، مثل الصدر، بالدماء. والحريري الأب كان معارضاً لنظام البعث السوري الذي كان يدير السياسة في لبنان، بأجهزة الاستخبارات والأمن. واصطدامه بالبعث حوّله إلى أشلاء، ثم شكّل اغتياله دفعاً كبيراً باتجاه طرد الجيش السوري واستخباراته من لبنان في نيسان/ أبريل 2005. ولم يستطع الحريري التعبير عن نفسه سياسياً كما يجب إلا بعد هزيمة النظام السوري في لبنان، وإن بقي الأثر البعثي مؤثراً في السياسية اللبنانية بنسب متفاوتة في السنوات اللاحقة، تماماً كما هي الحال مع العراق.
بدأ الصدر، بدوره، الظهور وأخذ مكانته السياسية بعد سقوط نظام صدام حسين وكان شاباً يافعاً. والحريري والصدر في عمر متقارب، إذ يكبر الحريري الصدر بخمس سنوات (عمر الصدر 47 سنة)، وكلاهما دخل السياسة باكراً نتيجة الدم الذي فرض إيقاعه على الرجلين وعجّل من “نضجهما” المفترض.
في ممارسة كلا الرجلين السياسة، كل في بلده، اصطدما بحائط واحد مشترك، هو السياسة الإيرانية في المنطقة. وكلاهما، على اختلاف المعطيات والتفاصيل، قررا الخروج من السياسة بعدما عطّل النفوذ الإيراني في لبنان والعراق العملية السياسية وأدخلها في حال المراوحة والاستعصاء. فحتى مع فوز الحريري بالاغلبية النيابية في انتخابات عام 2009، ثم تكليفه بترؤس الحكومة برغم خسارته ثلث كتلته النيابية في انتخابات عام 2018، لم يستطع الرجل ان يحكم، ولا أن يشكل حكومة قادرة على اتخاذ قرارات جوهرية، إلا بعد أخذ الرضا الإيراني وتنفيذ ما يريده “حزب الله” الحليف الأول لإيران في لبنان. والحريري، بعد اصطدامه بالسعوديين، على خلفية اعتقاله عام 2017، من قبل وليّ العهد محمد بن سلمان، صار رهينة الإيرانيين، ولم يعد أمامه طريق إلا الانسحاب التدريجي من السياسة اللبنانية بعد فشله في إدارة مشاريعه التجارية والمالية واشتراكه مع بقية المنظومة في إيصال اللبنانيين إلى القعر مع الانهيار الاقتصادي عام 2019، ثم انفجار مرفأ بيروت في 2020، وصولاً إلى الانتخابات النيابية في أيار/ مايو الماضي، والتي أفرزت واقعاً جديداً فيه نفحة تغيير، لكنه بقي عصياً على الحلحلة لجهة تأليف حكومة، أو التحضير لانتخابات رئاسة الجمهورية. فكل شيء مؤجّل إلى حين البتّ بالاتفاق النووي الإيراني، والسياسة في البلدين مرهونة بالمصالح الإيرانية أولاً وأخيراً.

تبقى الاختلافات الجوهرية بين الشخصيتين غالبة على المقارنة. فشخصية الحريري خنوعة وتابعة، تارة للسعوديين والفرنسيين والأميركيين وطوراً (أخيراً) للإيرانيين، فيما يؤكد عارفو مقتدى الصدر من قرب أن شخصيته عصية على التبعية، وأنه متمرّد لا كلمة لأحد عليه، لا الإيرانيين ولا الأميركيين ولا سواهم. وأنه يفعل ما يخطر له من دون أن “يمون” عليه أحد. وهذا أمر يجعل من الصعب التنبؤ بسلوكه السياسي وخطواته المقبلة. كما أن الحريري خرج من السياسة خاسراً، فيما الصدر يخرج منها رابحاً. فضلاً عن امتلاك الصدر ميليشيات تمكّنه من التعامل مع منطق الميليشيات، وتجعله قادراً على “التواصل” مع الإيرانيين بـ”اللغة” التي يفهمونها، فيما سعد الحريري يبدو مسالماً، حتى إنه فشل فشلاً ذريعاً في تأسيس ميليشيات مسلّحة حينما حاول البعض توريطه فيها عام 2008. أما الفارق الأساسي، الذي يحكم نظرة الجانب الإيراني إلى الرجلين، فيتمثل في أن الصدر شيعي والحريري سنّي. وهذا ليس تفصيلاً بسيطاً بالنسبة إلى نظام الولي الفقيه، الذي لا ينظر إلى الأمور في المنطقة، إلا من منظار طائفي.
“درج”