اعتقد ماركس ان التاريخ يتشكل من حقبات وان الرأسمالية واحدة منها، لكننا اكتشفنا اليوم ان للرأسمالية نفسها تاريخها الخاص المتشكل من حقبات تختلف الواحدة منها عن الاخرى. رأسمالية القرن العشرين انبنت حول الشركة الصناعية الكبرى التي أقامت ما بين أفرادها ما كان لدوركهايم ان يسميه بالتضامن الميكانيكي. المهندسون يفكرون بطريقة جعل العمال أكثر إنتاجية، والقادة، وهم أنفسهم موظفون مأجورون، يسعون مع مرؤوسيهم إلى حماية الشركة من نوائب الدهر. وتتشكل تجمعات كبرى بهدف حماية نفسها من المخاطر الصناعية، كأن تقوم الشركة التي تصنع مايوهات للسباحة بشراء مصنع مظلات واقية من المطر (شمسيات)، بذلك مهما كانت تقلبات الطقس لا يفقد الموظفون وظائفهم. وهكذا على صورة المجتمع الإقطاعي، فإن مجتمع القرن العشرين الصناعي جمع ما بين نمطي الإنتاج والحماية فوحّد ما بين المسألتين الاقتصادية والاجتماعية.
اما رأسمالية القرن الحادي والعشرين فتقوم بتنظيم التدمير المنهجي لهذا المجتمع الصناعي. لقد ذابت طبقات الشركة الصناعية الكبرى المختلفة في ما بينها. فالمهندسون أضحوا في مكاتب دراسات مستقلة حيث لا يلتقون بالعمال وهؤلاء تقوم بتوظيفهم شركات متخصصة مستقلة. لقد غيرت الثورة المالية مبادىء تنظيم الشركات. لم يعد صاحب الأسهم يهمه ان تقوم الشركة نفسها بصناعة المايوهات والمظلات بل يفضل، درءا للمخاطر، ان يملك أسهما من هذه الشركة وتلك. هذه المخاطر بات يتحملها العمال في حين ان المساهمين يحمون أنفسهم فانتهى التضامن الذي كان في قلب الشركة الصناعية.
يحاول دانيال كوهن في هذا الكتاب(•) التقاط الأسباب التي دفعت برأسمالية القرن الحالي الى التدمير المنهجي لما ورثته: الوثبات التكنولوجية، الثورة المالية، تحولات أنماط تنظيم العمل، عولمة التبادلات الخ. وعبر امتحان المنطوقات الكامنة وراء هذه الانقلابات يستخلص ثلاثة دروس تساعد على فهم تحديات المستقبل.
اول هذه الدروس ان الرأسمالية المعاصرة قامت بتفكيك الشركة الصناعية. لقد اختفت صورة الشركة الكبرى التي تحتضن في كنفها كل طبقات المجتمع. الهرم الفوردي(من الفوردية) استحال الى طبقات رقيقة. التراتبيات صارت مسطحة. تذررت مكاتب المهندسين وصارت الفبركة خارج الشركة بل بعيدا خارج البلد. وهذه القطيعة ليست سببا وحيدا، يمكن ان نقرأها اولا كلحظة صراع طبقات فقد هزمت الرأسمالية الجديدة النقابات وقضت على التجمعات العمالية التي بنت نفسها خلال القرن. ولعبت العوامل الخارجية أيضا دورا مهما فالاعتراضات على استغلال العمال كما في انتفاضة ايار 1968 وبزوغ التكنولوجيات الجديدة عجّلت في مجيء "فكر رأسمالي جديد" اخذ يفكر بطريقة مختلفة لتنظيم العمل. وتحرك ذكاؤه الاجتماعي في وجهة معاكسة للفوردية:ليس جعل العمال أكثر إنتاجية بل بناء مصانع من دون عمال. وعدنا لمشاهدة ما كان يصفه ماركس بجيوش العاطلين عن العمل.
الدرس الثاني هو هذه العولمة التي أحدثت قطيعة هي الاخرى تساعد في فهم بزوغ المجتمع مابعد – الصناعي. "التفكك العمودي" لسلسلة الإنتاج على المستوى الدولي هو أولا انعكاس مسار انتقال العمل الى الخارج داخل البلدان الصناعية نفسها. على صورة انترنت صار الانتاج يتبع اكثر الطرق تنوعا للوصول الى غاياته. واضحت الشركات الكبرى مراكز لصوغ الاستراتيجيات اكثر منها لصناعة منتجات توزع في أرجاء المعمورة. التقسيم الدولي للعمل يضيء أيضا على أسباب أفول التضامن الميكانيكي الذي تكلم عنه دوركهايم، فالسوق لم يعد يخلق بين أعضائه جماعة موحدة المصائر والمصالح. انه يجعل منهم متنافسين متصارعين أكثر مما يؤسس لتضامن في ما بينهم. وتبرهن الدراسات ان التجارة عموما ليست أبدا عنصر سلام و تهدئة للعلاقات الدولية. أفكار مونتسكيو الجميلة حول "التجارة الناعمة" بين الناس ليست صحيحة.
ويضيف الكاتب ان الطلاق على المستوى الدولي لا يحدث فقط بين الدول الفقيرة وتلك الغنية إنما في البلدان الغنية نفسها حيث التناقض ما بين المراكز والضواحي يحل محل الصورة القديمة لصراع الطبقات في كنف الشركة الصناعية.
الدرس الثالث ان من خصائص المجتمعات ما بعد – الصناعية صعوبة بناء نموذج اجتماعي جديد يتكيف مع المرحلة التاريخية والآمال الجديدة. فالفضاء الاقتصادي لم يعد ينشر نموذجا اجتماعيا كما في زمن المجتمع الصناعي. الفوردية كانت تساهم في التخفيف من حدة معظم الاختلافات ما بين البلدان. هذه الاختلافات تعود بقوة حيث ان على كل بلد حشد كل موارده الثقافية والسياسية لبناء التناغم الاجتماعي.
بالنسبة لفرنسا مثلا يقول الكاتب إنها اعتمدت لوقت طويل على أوروبا في "عصرنة" نفسها: بالأمس من اجل الهروب من ماضيها الكولونيالي واليوم من اجل مواجهة العولمة. لكنها اكتشفت ان أوروبا لا تستطيع مساعدتها عبر التفكير مكانها في النموذج الاجتماعي الذي يلائمها. وصعوبة الاتفاق مابين الأوروبيين حول صلاحيات ودور الدولة والسوق والنقابات وغيرها تشهد على صعوبة ان يكون المرء أوروبيا من الناحية الاجتماعية على الأقل.
لقد برهنت أوروبا على انه من الممكن الانتقال من حالة الحرب الى السلم في وقت قصير وان الاندماج الاقتصادي يحفظ التنوع الثقافي. ومن خلال المفوضية برهنت عن وجود طريق لبناء مؤسسات فوق-وطنية تحترم سيادات الدول. لكنها اكتشفت متأخرة انه لا يكفي الاستحواذ على سوق موحدة من اجل خلق مواطنة واحدة مشتركة. بضائع وسلع اقل مع المزيد من العلاقات المباشرة بين الأوروبيين قد توصل إلى ذلك بشكل أفضل.
في الخلاصة يستشهد كوهن بألان توران لتلخيص تطور العلاقة التاريخية ما بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي بغية فهم عودة التمييز الاجتماعي الى المجتمعات الأوروبية المعاصرة. نقطة الانطلاق تقع في بداية الألفية الماضية. بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر بدأت السلطة السياسية بالتخلص من عبء السلطة الدينية عندما بدأ الملك يحيط نفسه بمشترعين يساعدونه على رسم حدود سيادته بعيدا عن تلك الخاصة بالكنيسة. وعندما تحررت من الوصاية الدينية تحالفت السلطة السياسية مع الاقتصاد: إنها اللحظة المركنتيلية. في مواجهة ماكيافيللي الذي ظن ان على الأمير ان يكون غنيا ورعاياه فقراء أراد المركنتيليون ان يثبتوا ان الأمراء والتجار يجتمعون حول مصلحة مشتركة فغنى التجار يغذي خزائن الأمراء.
ثم راح الاقتصادي بدوره يتحرر من السياسي. فالدولة التي أرادت استخدام الاقتصاد في سعيها وراء القوة وجدت انه يطالب باستقلاله عنها. انه "التحول الكبير" للقرن التاسع عشر حيث أضحت الأمم الأوروبية اقتصادات سوق. لكن الليبرالية الاقتصادية أنتجت كوارث إنسانية خلال هذا القرن فضربت أسس اقتصاد السوق الذي أمسى عاجزا عن تأمين إعادة إنتاج العمل. من هذا المشهد انبثقت الأفكار الاشتراكية ومختلف نظريات التضامن الاجتماعي واضطر الاقتصادي بعدها للتحالف مع الاجتماعي. لقد بزغت الفوردية من رحم المجتمع الصناعي، انتقلنا منه الى ما بعد-الصناعي فعاد الطلاق مابين الاجتماعي والاقتصادي. لكن إذا كان توران يعتقد بموت الاجتماعي إلا ان كوهن يعتقد بأنه يعيش دوما بل أكثر من أي وقت مضى لكنه مكبل بقواه الذاتية. والمقارنة مع القرن التاسع عشر خادعة. وقتها كانت الرأسمالية لاترى مصادر غناها. ماركس كان على حق:الرأسمالية لم تكن تفهم قوانينها الخاصة القاضية بجعل الطبقة العمالية أكثر إنتاجية. اليوم أسباب البؤس الاجتماعي ليست اقتصادية لان مصادر القيمة المضافة انتقلت وأمست في المختبرات وليس في العمل الجسدي.
وفي النهاية يدعو الكاتب الى تجديد المؤسسات والنقابات والجامعات وإعادة التفكير في الحكم الرشيد على المستوى العالمي كما على المستويات المحلية. ومهمة هذه المؤسسات واحدة: بناء بنية تحتية اجتماعية تساعد الأفراد والدول على العيش في وضع يعفيهم من الاختيار ما بين العالمين الواقعي المدقع الفقر والافتراضي الفاحش الثراء.
لا يتكلم كوهن عن الأزمة المالية التي تضرب الاقتصاد الرأسمالي اليوم لكن تحليلاته تساعد على فهم المسار الذي أوصل إلى هذه الأزمة. والعلاجات التي يقترحها هي تقريبا تلك التي يتداولها السياسيون الأوروبيون، كما الرئيس الاميركي باراك اوباما، رغم صدور الكتاب قبل سنتين.
() Daniel COHEN "Trois leçons sur la société post-industrielle", ed. seuil, paris, septembre 2006.
"النهار"




















