المستقبل –
في عام 1955 كان العالم منقسماً عمودياً الى معسكرين. المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة. كان العصب العسكري للمعسكر الأول يتمثل في حلف وارسو. وكان العصب العسكري للمعسكر الثاني يتمثل في حلف شمال الاطلسي. وكان العالم كله في ذلك الوقت خاضعاً أو متأثراً بأحد المعسكرين. الان انه كان هناك من حاول التمرد على هذا الأمر الواقع.
قاد حركة التمرد خمسة قادة هم: أحمد سوكارنو الرئيس الأندونيسي وجمال عبد الناصر الرئيس المصري، وجوزف تيتو الرئيس اليوغسلافي، وجواهر لا نهرو الرئيس الهندي وكوامي نكروما الرئيس الغاني. وانطلقت من باندونغ بأندونيسيا حركة عدم الانحياز الى أي من المعسكرين المتصارعين على الهمينة على العالم ومقدراته.
في عام 2009 تغيرت صورة هذا العالم. فبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي وتمزقه، انهار حلف وارسو. واصبحت الدول الاعضاء فيه دولاً رافضة لموسكو ومختلفة معها، بل ومعادية لها. بعض هذه الدول انضم الى حلف شمال الاطلسي، ويتطلع بعضها الآخر الى أول فرصة للانضمام ليحمي ذاته من الحليف السابق. ومن لم تتوفر له بعد الظروف المؤاتية انضم الى الاتحاد الأوروبي. وهكذا تلاشت الحدود العقائدية بين أوروبة الغربية وأوروبة الشرقية.
أما على الجناح الشرقي من الكرملين فقامت مجموعة جديدة من الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي السابق، وهي دول آسيا الوسطى.
اضافة الى هذه المتغيرات الجذرية استجد على المسرح الدولي عاملان اضافيان. فالهند لم تعد دولة تخشى التبعية. لقد أصبحت دولة استقطابية في آسيا بعد ان تحولت الى دولة نووية والى دولة صناعية متقدمة بشعب يزيد عدده على المليار و200 مليون نسمة. والصين لم تعد دولة شيوعية مغلقة بل انها تحولت الى مارد اقتصادي عالمي أضاف الى قوتها النووية تطوراً علمياً أوصلها الى مدارات الفضاء الخارجي.
الا ان مبدأ عدم الانحياز بقي قائماً على المسرح الدولي. وتكريساً لهذا المبدأ كانت قمة شرم الشيخ في الاسبوع الماضي التي جمعت قادة (او ممثلين عن قادة) دول عدم الانحياز. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: أي معني لعدم الانحياز في القرن الواحد والعشرين ؟. كانت الحرب البادرة تشكل حافزاً لدول العالم الثالث للعمل معاً من اجل حفظ سلامتها ومصالحها بمعزل عن تصارع الجبارين الكبيرين، وكذلك من أجل انقاذ هويتها من الذوبان في خضم الصراع التنافسي الشديد بين معسكري الجبارين السوفياتي والاميركي. ولكن تلك الحرب وضعت أوزارها الآن وتغيرت بذلك معادلات القوى. وقامت خريطة سياسية على أساس نظام عالمي جديد. واصبح للانحياز أو لعدم الانحياز تعريفاً جديداً ومفهوماً جديداً.
في عام 1979 عقدت دول عدم الانحياز مؤتمر قمة في هافانا كوبا، صدرت عنه شرعة جديدة تحدد أهداف الحركة، أولاً بالمحافظة على استقلال وسيادة الدول الاعضاء. وثانياً بالنضال ضد الاستعمار والعنصرية. وثالثاً بالتصدي للتدخل الخارجي ومحاولات الهيمنة.
الآن وبعد مرور ثلاثين عاماً على هذه القمة، واجهت الدول الأعضاء في قمة شرم الشيخ وقائع ومعطيات سياسية دولية من نوع جديد.
فالاستقلال والسيادة أصبح لهما مفاهيم ومعان جديدة من خلال حركة رؤوس الأموال والاستثمارات المتحركة التي تؤثر بصورة مباشرة على الاقتصاد الوطني وبالتالي على النمو الاجتماعي. وكذلك من خلال حركة الاعلام الحديث بشقيها المعرفة والتعريف عبر الفضائيات والوسائل الالكترونية المتطورة التي لا تعترف بحدود ولا بمراكز تفتيش..
اما النضال ضد الاستعمار القديم فأصبح له مفهوم جديد لأن الاستعمار لم يعد موجوداً في اي مكان في العالم (باستثناء الأراضي الفلسطينية التي تحتلها اسرائيل ). وحتى العنصرية التي لا تزال تنفث سمومها في بعض الثقافات تلقت ضربة قاصمة بسقوط النظام العنصري الابارتيد في جنوب افريقيا، ثم بانتخاب الرئيس باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الاميركية.
وأما قضية التدخل الأجنبي ومحاولات الهيمنة فهي قضية نسبية. فهناك تدخلات خارجية تستند الى المواثيق الدولية المستحدثة. حتى ان انتهاك حق انسان ما، او جماعةما في دولة من الدول، لم يعد شأناً داخلياً خاصاً بالدولة المعنية، ولكنه أصبح شأناً دولياً عاماً، بموجب ميثاق 1948، وميثاق 1993.
لقد كان هناك تدخل دولي في البوسنة الهرسك أوقف المجازر الصربية ضد المسلمين. ولأنه لم يكن هناك تدخل دولي في الكونغو ورواندا لدى وقوع المجازر فيها، فقد تعرضت الدول القادرة على التدخل وخاصة الولايات المتحدة الى الانتقاد الشديد من المجتمع الدولي.
صحيح ان بعض الدول تتدخل لحسابات خاصة بها، كالاجتياح الاميركي للعراق، الا ان الصحيح ايضاً ان الامم المتحدة تعطي المشروعية لمثل هذا التدخل كما حدث في الصومال والكونغو.. وكما يحدث الآن في دارفور بالسودان رغم معارضة الحكومة الشرعية. بل ان المحكمة الدولية ذهبت الى حد المطالبة بمحاكمة الرئيس الشرعي للدولة ليس بعد انتهاء فترة ولايته فقط، كما حدث مع الرئيس الليبري السابق، بل وهو على سدة الرئاسة كما حدث مع الرئيس السوداني عمر البشير.
من هنا فان مبادئ ومفاهيم عدم الانحياز قد تغيرت عما كانت عليه في منتصف القرن العشرين عندما كانت المؤسسات الدولية بما فيها منظمة الأمم المتحدة مشلولة تحت ضغط الحرب الباردة بين القطبين السوفياتي والاميركي. ففي ظل النظام العالمي الجديد الذي قام على أنقاض تلك الحرب وما أفرزته من متغيرات في المعادلات العسكرية والاقتصادية المؤثرة، برزت وقائع جديدة تعيد صياغة مفاهيم الحياد الدولي وعدم الانحياز.
من هنا تحتاج حركة عدم الانحياز الى اعادة نظر شاملة في أدبياتها ومفاهيمها، وتالياً في أهدافها واستراتيجيتها.
ولكن من أين لها قادة أمثال نهرو وتيتو وعبد الناصر وسوكارتو ونكروما؟




















