فكرة «لوليتا» لوحدها تدفع إلى البحث عن كاتبها، تلك الرواية التحفة التي حققت شهرة غير طبيعية لكاتبها نابوكوف، الروسي المتحدّر من عائلة تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، فيها الكثير من المتعلمين والمثقفين والموظفين وأصحاب الدخل المعقول، الذين باستطاعتهم المضي بحياة متوازنة، دون عائق اقتصادي.
حفلت سيرة نابوكوف بحياة متقلبة، فبعد ولادته في عام 1889 في سانت بطرسبرغ الروسية، لأب يمتهن الصحافة والسياسة معاً، ويكتب في القوانين الجنائية إبان الزمن القيصري، تغيرت تلك الحياة الميسرة في الزمن الملكي، حين هبّت على العائلة ثورة أكتوبر/تشرين الأول الاشتراكية 1917 فوّلى الوالد وجهته والعائلة إلى برلين منفياً، ليصدر جريدته المعارضة الليبرالية من هناك، لكنه لم يهنأ بتلك الإقامة، حيث اغتيل في عام 1922 في برلين، لتبدأ بعد ذلك مرحلة المعاناة لعائلة فلادمير نابوكوف، ويبدأ الشتات الطويل، وسنوات الضنك والاغتراب وأيام المنافي المريرة والقاسية، وأحياناً الوادعة في بعض من وجوهها، لما حملته للكاتب من نجاحات في مجال الأدب عامة.
في برلين سيتعرّف نابوكوف على فيرا، فتنشأ علاقة حب، ويتزوجان عام 1925، ليستمر هذا الزواج لخمسين عاماً، فيه ما فيه من حب وولوع وتشرّد وغياب وسفر واكتئاب وقسوة، مردّها الحياة المتقلبة وغير المستقرة، فحياة نابوكوف فيها هذا النوع من عدم الاستقرار، وعدم الركون إلى الطمأنينة والهدأة، بسبب مواقفه من سلطة بلده، وبسبب الحروب التي قامت في ما بعد، وبسبب الكتابة ومتطلباتها، من سفر ونشر ودعوات إلى بلدان عدة، وإلقاء محاضرات، والالتزام بدروس حول الرواية وكتابتها، وما يتطلبه العمل الإبداعي من جهد ومثابرة وإعمال خيال، وقراءة وسفر هنا وهناك لترجمة أعماله إلى العالمية. فنابوكوف كان دائب التنقل والسفر ما بين برلين وباريس وبراغ ولندن وصقلية وجنيف وسويسرا ونيويورك وولاية فرجينيا الأمريكية. لقد تُرجم له الكثير، ولاقت كتاباته النجاح والمؤازرة والرواج المستمر. وقد تَوّج كل ذلك في عمله المُلهم «لوليتا» الذي تُرجم لأغلب لغات العالم، فحاز جوائز وعوائد من الترجمات، حسّنت من وضعه ولهاثه الدائمين وراء النقود والنشر، فهو فضلاً عن كتابته الروائية، كان أيضاً يكتب الشعر تحت اسم سيرين، وقد لفتت أشعاره الأنظار إليه، فسيرين كان هو الشاعر الذي لا أحد يعرف اسمه الحقيقي، فلاديمير نابوكوف، وكان مثل أي روائي عالمي يبدأ بالشعر ثم ينقلب في ما بعد إلى السرد، مثل بعض عمالقة الكتابة الروائية. فنابوكوف كان يكتب أيضاً مراجعات للكتب، ونصوصاً أدبية، ومسرحيات ومقالات في الشأن الثقافي.
في الشعر اشتهر نابوكوف باسم «سيرين» وعرفته الأوساط الروسية المهاجرة إلى باريس بهذا الاسم، بينما في السرد كان ينشر باسم فلاديمير نابوكوف، أما عائلة نابوكوف فبعد هجرة طويلة مرّت بها في القرم وبرلين واليونان ولندن، استقرت العائلة أخيراً في براغ، وزوجته في برلين، وكان نابوكوف يتردد عليهما من خلال زيارات مكوكية، بين كل من باريس حيث كان يقيم ويراقب ويشرف على ترجمة أعماله ونشرها، وبراغ حيث العائلة، وبرلين حيث الزوجة تقيم وتعمل.
كانت زوجته فيرا تمر بحالات اكتئاب طويلة، تتطلب منها المعالجة والنظر في حالتها النفسية، وكان نابوكوف يكتب لها يومياً رسائله المُحبّة والمطمئنة، والتي تحمل عبارات كثيرة حول الشوق واللقاء والحب الأبدي، وكذلك تشرح رسائله وبالتفصيل كل عمل يقوم به إلى زوجته فيرا، التي كانت تبادله علامات الحب والوفاء وحالات الاضطراب السايكولوجي كذلك. تكشف لنا رسائل نابوكوف الحميمة، كل أخباره الأدبية ونشاطاته وتفاصيل رحلاته للبلدان التي يدعى إليها، لغرض ترجمة أعماله، أو لغرض إلقاء محاضرات، وعقد ندوات أدبية ونقدية، وذلك كله كان يتم عبر علاقته المتشابكة والكثيرة، والمتغلغلة في الأوساط الأدبية الفرنسية والأمريكية، وفي البلدان المجاورة لفرنسا، نشاط دؤوب ومثابر وخلاق، وحضور واضح ومشرق في عاصمة عالمية مثل باريس، تعج بالكتاب والأدباء والشعراء والروائيين، فضلاً عن الناشرين ودور النشر المغرية، والصحافة الفرنسية الجذابة، تلك التي لا تني تلقي المزيد من الأضواء على عالم المشاهير، من رجالات الأدب والفن والسياسة، في فترتي ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، فكان نابوكوف الروسي في الوسط الفرنسي، يسعى جاهداً وبشتى الوسائل إلى الركض في كل مكان، لجمع ما يسد الرمق ويكفي الأود، فتارة ينشر قصة قصيرة، وأخرى مسرحية، وثالثة قصيدة أو عرض كتاب، أو إعطاء محاضرات حول الأدب الروائي، فتراه في الرسائل دائماً يتحدّث عن المال، وهو هنا لا يتردد من أن يأتيه المال كعطية من أحدهم، فيسجّل لزوجته كم حصّل ومن أعطاه المال، عن طريق شخص محب ومساعد، أو عن طريق مكافأة أدبية، أو دفعة مالية نظير نشر كتاب له، فهو دائب الحركة والنشاط والسعي للكتابة، مقابل المال مهما كان قدْره، وهو ما سوف يعينه في حياة المنفى القاسية، التي لا توفّر غير الحرية الشخصية، والمتاعب الآنية، وهي كثيرة لمهاجر مثله ترك بلده، كونه لم يطمئن هو ووالده لمن قاموا بالثورة الروسية، وجاءوا يمسكون بزمام البلاد بعد القيصر وحياة البلاط.
ربت الرسائل على المئتين وثمانين رسالة، لم يكن نابوكوف ليتوقع أحد نشرها بعد موته، لكن ولده نشرها، ووضع حياة والده ووالدته تحت الأضواء، لتكون مائدة عامرة لمن يحب أن يتذوّق بالعين ما تحمله الرسائل من مفاجآت أدبية، يحب القراء الفضوليون الاطلاع على صاحب كتاب «لوليتا « الشهير. فنابوكوف الكاتب والروائي، الذي كتب المسرحيات والشعر والقصص والرواية، والمقالات والمحاضرات، كان قد كتب خمسمئة رسالة إلى إعلاميين وناشرين ونقاد ومترجمين وأساتذة جامعات وفنانين، ثلاثمئة منها لفيرا، وهي هنا تكون قد أخذتْ حصّة الأسد من رسائل نابوكوف البعيد عنها، في غالب الأوقات والظروف والأحوال.
تبدأ الرسائل في عام 1923 وتنتهي في عام 1976. في الرسالة الأولى يشرح وضعه في ميناء مرسيليا، حيث كان يعمل طوال النهار فيكتب: «أنا منجذب لافريقيا وآسيا! وقد حصلت على وظيفة ستوكر (وقّاد فحم في فرن باخرة) متجهة إلى الهند الصينية، لكنْ هناك شيئان اضطراني للعودة إلى برلين لبعض الوقت، الأول أن والدتي ستكون وحيدة، والثاني سرّ غامض أحاول جاهداً أن أجد له حلاً.. سوف آتي إليك، وحتماً سوف أعثر عليك، أراك لاحقاً قريباً، يا فرحتي الغريبة، يا ليلي الرقيق.. حتى أني أكتب إليك قصيدة ها هي:
مسحتُ عن جبيني وخز حريق القطرات
واضطجعتُ على دفء انحدار طريق فانزلق بي
والشمس ترعد بين حشد الصنوبر».
لقد أنجزت وأنا هنا كتابة أمور كثيرة، من بينها مسرحيتان هما «الأب الكبير»
و»القطب» وسأنشر الأولى في دار نشر «غامايون» والثانية في العدد المقبل من مجلة «الفكر الروسي».
وآخر رسالة كتبها نابوكوف في عام 1976 من مونترو في سويسرا، كانت واحدة في ذلك العام وبسطر واحد قال فيه: « لما رنّ الهاتف في الصحراء وتجاهلت رنينه».
رسائل إلى فيرا ـ «دار الرافدين» 452 ص، ترجمة عبد الستار الأسدي.
كاتب وشاعر عراقي