لم تقتصد مواقع الإعلام الناطقة بالروسية في الأوصاف التي أطلقتها على الهجوم الأوكراني المضاد الذي أعلن الرئيس الأوكراني في 10 الجاري عن إنطلاقه، من دون أن يذكر متى بدأ بالتحديد، وعلى أي قطاعات في جبهة القتال. بعضها رأى أنه “أكبر المعارك في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”، وآخر رأى فيه “مرحلة جديدة في الحرب بين روسيا والغرب”. وكان الهجوم أحجية على مدى الأشهر الأخيرة، وبقيت وسائل الإعلام حتى الأيام الأخيرة قبل تصريح زيلينسكي ترفق عناوينها عن بداية الهجوم بعلامة إستفهام.
موقع الخدمة الروسية في BBC أوضح الفارق بين “الهجوم” و”الهجوم المضاد” في النص الذي نشره في 12 نيسان/أبريل المنصرم، وقال بأن “الهجوم المضاد” يأتي عادة في سياق المعارك القتالية، أو كردٍ على هجوم قام به العدو وإنتهى لتوه. وعلل إستخدامه كلمة “هجوم” بدل “الهجوم المضاد” بأن عمليات قتال القوات الروسية في الشتاء المنصرم حملت طابع حرب المواقع.
ذكّر الموقع حينها أن الرئيس الأوكراني أشار إلى الهجوم الأوكراني في مقابلة مع صحيفة يابانية، وقال بأن الهجوم الذي كان مخططاً له في الربيع قد تم تأجيله بسبب النقص في الآليات العسكرية والذخيرة. وقال الموقع بأن السبب المشار إليه ليس العامل الوحيد في تأجيل الهجوم، بل كان الجيش الأوكراني يجند ما يكفي من القوات، وينتظر جفاف الأرض بعد الشتاء كي تتمكن الآليات العسكرية من التحرك. إضافة إلى هذين العاملين في تأخير الهجوم، عدد الموقع بعضاً من العوامل الأخرى الكثيرة التي تؤثر في قرار هيئة الأركان الأوكرانية: مستوى إعداد القوات وإستعدادها للمعركة، تقييم وضع القوات الروسية ومواقع تمركزها على الجبهة وفي المؤخرة، إمكانية نقل الإحتياطي إلى جبهة القتال وسواها.
وقبل أن يعلن زيلينسكي رسمياً عن بداية الهجوم الأوكراني، أعلن الرئيس الروسي في 9 الجاري أن هجوم القوات الأوكرانية قد بدأ، ويشير إلى ذلك، برأيه، إستخدام كييف الإحتياطات الإستراتيجية. ونقل موقع الصحافة الإتحادية fedpress عن مدير المخابرات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين قوله لوكالة نوفوستي أن الغرب يوسع الآن قائمة وحجم الأسلحة الهجومية التي يمد بها “نظام كييف”.
الرئيس الروسي السابق ونائب سكرتير مجلس لأمن القومي حالياً ديمتري مدفديف، والذي يكثر في الفترة الأخيرة من التهديدات بإستخدام السلاح النووي، نقلت عنه صحيفة Kommersant في 7 الجاري قوله بأنه يجب وقف الهجوم الأوكراني، ومن ثم البدء ب”هجومنا”. ورأى مدفديف أن على الروس ألا يستخفوا بالهجوم الأوكراني، وأن يردوا عليه “رداً لائقاً”. وقال بأن العدو والعالم الغربي من ورائه على إستعداد لمحو “بلدنا” عن وجه الأرض. ويصر الرجل على إستخدام تعبير “الهجوم المضاد”، وقال بأنه لم يكن مفاجئاً لروسيا. ورأى أن القوات الروسية تتفوق على الجيش الأوكراني في الطيران، الأسلحة دقيقة التصويب والقوات المؤللة.
وقبل بوتين وزيلينسكي، نقلت الصحيفة عن وزير الدفاع الروسي قوله في 6 الجاري بأن “نظام كييف” ينفذ في الأيام الثلاثة الأخيرة الهجوم الذي وعد به طويلاً على قطاعات مختلفة من الجبهة. وصرح بأن محاولة الجيش الأوكراني في 4 الجاري التقدم بفيلقين على 5 إتجاهات قد باءت بالفشل. وفي الخامس من الشهر حاول الجيش الأوكراني مجدداً القيام بالهجوم على سبعة إتجاهات، لكن محاولته فشلت من جديد وتكبد “خسائر كبيرة”، على قول الوزير.
تنقل الصحيفة عن النيويورك تايمز قولها بأن أوكرانيا لم تطلع الولايات المتحدة على موعد بدء “الهجوم المضاد” الكبير، لكنها أطلعتها على مواعيد إنطلاقه.
الهجوم الأوكراني الذي سبق ل”المدن” أن قالت بأنه بدأ منذ أواخر الشهر المنصرم مع الهجمات المتكررة للمسيرات والوحدات الأوكرانية على المناطق الروسية المجاورة والبعيدة، بما فيها موسكو والكرملين، قد وجدت أحجيته حلها أخيراً وبدأ. لكن أحداً لا يستطيع الجزم بما سينتهي إليه، وإن كان المسؤولون الأميركيون قد رأوا أن العمليات الحربية الأوكرانية لن تتمكن من إستعادة كل الأراضي المحتلة، بما فيها القرم.
الخدمة الروسية في إذاعة “صوت أميركا” نقلت في 10 الجاري عن الباحث الأول في قضايا الحرب البرية في المعهد الدولي للأبحاث الإستراتيجية بن باري تعليقه على إنطلاق الهجوم الأوكراني. رأى الباحث بأنه، إذا صحت أخبار المراسلين الحربيين الروس عن ظهور الدبابات الألمانية ليوبارد والآليات المصفحة الأميركي برادلي في منطقة توكماك، فستكون التأكيد الأول على أن الألوية الأوكرانية المزودة بالأسلحة الغربية قد دخلت المعركة.
ويقول الباحث بان لدى أوكرانيا 12 لواءاً تضم 50 ـــ 60 ألف مقاتل مستعدين للهجوم المضاد. 9 من هذه الألوية تم تسليحها وتدريبها في البلدان الغربية. ولأوكرانيا أن تختار كم من الألوية ستزج في البداية، وكم منها سيبقى في الإحتياط تحسباً للتطورات على أرض المعركة. ورأى أن الألوية الأولى لأوكرانيا قد تكون محاولة إخراج القوات الروسية من توازنها وتحقيق مفاجأة تكتيكية عن طريق الخداع والتمويه.
الأسبوعية الأوكرانية ZN نقلت في 8 الجاري عن الواشنطن بوست قولها بأن الهجوم المضاد سيكون أصعب على أوكرانيا القيام به من العمليات في منطقتي خاركوف وخيرسون السنة الماضية. وتضيف الصحيفة الأميركية أن لدى الجيش لأوكراني الآن أسلحة لم تكن متوفرة له السنة الماضية، لكن الطرفين يعانيان من ضغوط على المعنويات.
ترى الصحيفة الأميركية أن الروح المعنوبة قد تكون مشكلة كبيرة للطرفين. العسكريون الروس إصطدموا بالمشاكل في هذا المجال منذ اليوم الأول للحرب، وهو ما شكل أحد أسباب الإنسحابات الأخيرة في السنة الماضية. فالهجوم الشتوي الذي خططت له روسيا في مطلع السنة لم يحصل، والنجاحات التي تحققت كانت إنتصارات باهظة الثمن. باخموت على سبيل المثال، وعلى الرغم من أهميتها الإستراتيجية الضئيلة، كلف إحتلالها آلاف القتلى من الجنود الروس. وصاحب الشركة العسكرية الخاصة فاغنر” يفغيني بريغوجين يخوض الآن حرباً كلامية مع العسكريين الروس، وهو ما يشكل دليلاً آخر على الخلافات الداخلية العميقة والخطيرة.
بالمقارنة مع المشاكل الروسية، تبدو محدودة الشقوق في الروح المعنوية الأوكرانية. فالجنود والمسؤولون الأوكران يحافظون على روح معنوية مدهشة حتى بعد الفشل في باخموت. والأنباء قليلة عن إختلافات بشأن الإستراتيجية العسكرية أو قرارات الرئيس فلاديمير زيلينسكي. لكن وطأة طول الإنتظار يشكل ضغطاً على الهجوم الأوكراني المضاد. في الشهر الماضي صرح وزير الدفاع الكسي رازنيكوف لصحيفة الواشنطن بوست أن الهجوم المضاد قد تكون تمت المبالغة في تقديره على ضوء قوة أوكرانيا في الهجوم الأخير، وصمودها المدهش خلال 14 شهراً من الحرب. وحذر الوزير من خطر “الإحباط العاطفي” إذا لم يتم تحقيق نتائج وازنة.
رأت الصحيفة الأميركية أن من المحتمل أن يكون الوزير الأوكراني تحدث عن الإحباط الداخلي في أوكرانيا، حيث أن كثيرين يريدون العودة إلى الحياة الطبيعية، وإن كانوا لا يريدون التخلي عن النضال ضد روسيا. فإذا لم يتمكن العسكريون الأوكران من الحفاظ على دينامية الهجمات المضادة السابقة مع كل ما تلقوه من أسلحة جديدة وتدريبات، قد يبدأ بعض الحلفاء الغربيين بالإصرار على إجراء المفاوضات لأن معنوياتهم هم ستتأذى.
ترى الأسبوعية الأوكرانية في خلاصات الواشنطن بوست سبباً آخراً لجعل الكثيرين ينتظرون الهجوم المضاد. وتختتم بانتشال قول من ترسانة البروباغندا الأوكرانية: “على الجيش الأوكراني أن يقوم بكل شيئ كما يجب”.
“المدن”

























