في “أليس في بلاد العجائب”، تقول أليس: “ما لم تحدّد المكان الذي ستذهب إليه، مرجحٌ ألّا تصل أبداً”. أما بنيامين نتنياهو، فيبدو أنه لم يتعلّم شيئاً، لا من قصص الأطفال، ولا من تاريخه هو في الصراع. فها هو، مثل تجار سوق الكرمل في تل أبيب، يبيع ويشتري يوماً بيوم، علّه يكسب الوقت، على طريقة “ومن بعدي الطوفان”. وإذ ينطح برأسه جداراً بناه بنفسه لنفسه، لن تترك حربه في غزة الكثير مما يمكن إنقاذه، حتى لو نجح دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية المقبلة.
استراتيجياً، لا يحمل القتل والتدمير، مهما بلغا، أي مغزى، إنما يعمّق نتنياهو بهما الجورة التي سقط فيها. فالانتقام ليس ردعاً، وأي حرب لا تنتج تغييراً في الظرف الاستراتيجي نحو الأفضل خاسرةٌ بالتعريف.
يقول الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان في عام 1980: “بعد الحرب، عليك أن تسأل نفسك: هل أنت أفضل حالاً مما كنت قبلها؟”. كان يمكن أن نتصور انتصاراً لليمين بزعامة نتنياهو، لو تمكن في الأسبوعين الأولين من تهجير الفلسطينيين نحو سيناء والأردن. أما الآن، ومع لاءات نتنياهو، تُصبح غزة جورةً يغرق فيها، وتزداد التحدّيات خطراً، ويزداد الشرخ الجوهري في الردع عمقاً.
وفي حين تحاول إسرائيل إثبات قدرتها على ردع إيران في حرب تقليدية، من دولة إلى دولة، يتوسّع ثقب الردع الإسرائيلي الذي نجم عن الحرب اللامتناظرة. وفي حروب كهذه، لا تُحسب القوة بعدد الصواريخ والجنود، بل بالعقل الذي يقف وراء الصواريخ والجنود، وعقل نتنياهو يخوض الحرب الخطأ. فهو لم يتعلم حقيقة أن الولايات المتحدة ربحت الحرب في أفغانستان، لكنها خسرت معركة السلام هناك، وخرجت. فقلب معادلة الردع في حروب مشابهة ليس مسألة عسكرية!
تكمن الإجابة عن سؤال الردع في تغيير بيئة الصراع، وهذا سؤال تاريخي وعميق سياسياً. ليست “حماس” مقاتلاً تصارعه أو بيتاً تخربه، إنما هي فكرة عقائدية موضوعية. وما فعله نتنياهو هو أنه جعل تغيير بيئة الصراع لصالحه في ظل منطق الحرب أمراً يكاد يكون مستحيلاً.
بعد عملية “الرصاص المصبوب”، تعاملت إسرائيل قانونياً مع سلطة “حماس” في غزة بصفتها دولةً تتمتع بشبه سيادة محدودة، وترتيبات اقتصادية، وحقوق صيد، وزراعة، وجيش… إلخ. حاولت إسرائيل تغيير صورة علاقتها بغزة، من صورة الدولة المحتلة إلى صورة الدولة الراعية لشبه دولة، آملة في أن تبقي سيطرتها على غزة من دون أن تتكلّف ثمن مسؤوليتها عن القطاع ومَن فيه.
انهارت هذه النظرية الآن، وحلّ محلها وهم فاسد بالقدرة على تغيير عقول الفلسطينيين بالمزيد من القتل والعقاب والخوف. بل يأتي تقييد المساعدات والمجاعة والموت واعتبار منظمة اليونيسيف إرهابية ليثبت هذا المنطق الصفري العقابي.
الآن، يلف نتنياهو نفسه بشرنقة مستحيلاته. وعلى الرغم من أنه يعرف أن الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر لا يستطيع إبقاء الإقليم والعالم عقوداً على صفيح ساخن، ويعلم أنه عاجز عن إنتاج إدارة دمية في القطاع، ويعلم كذلك أن العرب لن يدخلوا غزة ليغسلوا ما فعل، فإنه يستمر في رفض كل الحلول المطروحة. وفي نهاية الأمر، نجح بامتياز في قلب صورة غزة في الرأي العام الدولي إلى حقيقة مفادها أن إسرائيل مسؤولة عن كل ما يجري في القطاع، بصفتها دولة محتلة.
على صعيد تغيير بيئة الصراع، إقليمياً ودولياً، وقع نتنياهو في شرّ أعماله! فهو نجح في تدمير الموقع الدولي لإسرائيل، بتفوق كبير، ونجح كذلك في إحباط كل الأيدي العربية الممدودة لأجل السلام، إذ ساد سلوكه منطق أعوج اخترعه وصدّقه: “العرب يستنصرون بإسرائيل ضدّ إيران”. إن العرب لن يأتوه خوفاً من إيران، وهم يعرفون منذ عقود بالاتفاقات الإقليمية التي تمرّرها إسرائيل من تحت الطاولة، ويعلمون أن اسرائيل لن تجابه إيران وحدها، حتى أنها سعت حثيثاً إلى أن يخوض الآخرون حربها. وكذلك، يعلم العرب أن الولايات المتحدة، حتى لو تسيّدها ترامب، لن تنخرط في أي حرب في الشرق الأوسط، ما لم تُمسُّ مصالحها الاستراتيجية القومية مباشرةً.
من جهة أخرى، نجح نتنياهو في إيقاظ غولٍ هرب منه طويلاً: “حلّ الدولتين”. وبرع كذلك في إعادة طرح القضية الفلسطينية على بساط البحث الدولي، بوصفها قضية عربية وإقليمية ودولية لا يمكن إغفالها في معالجة أي مشكلة في المنطقة، بما فيها قضية الإرهاب. وأوضح نتنياهو حقيقة أنه كان يرغب، من خلال فكرة تهجير الفلسطينيين، أن تبتلع دول الجوار لغماً أنتجه هو.
استند جزء مهمّ من الردع الإسرائيلي على الغطاء الاستراتيجي الأميركي غير المحدود، لكن الخلافات مع الإدارة الأميركية، ما خفي منها وما بان، أوضحت أن ثمة حدوداً لهذا الغطاء، المحصور في الدفاع عن وجود إسرائيل ذاتها. وقد عكست التحولات في الموقف الأميركي تراجعاً رئيسياً في الردع الاستراتيجي الإسرائيلي، وتقليصاً في صلاحية “البطاقة البيضاء” الممنوحة لها لتنفيذ خططها.
إلى ذلك، ترامب قومي أميركي متشدّد، لكنه ليس رجل حرب. إنه رجل أعمال يعمل بالصفقات والضغوط. وهو لا يُشبه ريغان ولا بوش الأب، ولا ينسج بقطب ناعمة عملاً دبلوماسياً محنّكاً يدوم سنين طويلة. فصبره قليل جداً. ولنتذكر أنه بعد فشل صفقة ترامب مع كيم جونغ أون، أطلق الزعيم الكوري الشمالي صواريخه التي يمكن أن تطال السواحل الأميركية. حينها، اقتصرت ردّة فعل ترامب على فرض المزيد من العقوبات. وإثر استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، وعندما عرض الإيرانيون صفقة تجنّب قوات النظام السوري قصفاً أميركياً كاسحاً، قبل ترامب بالصفقة وضرب مطار الشعيرات ضربة رمزية.
لذلك، نرى أن نتنياهو لم يترك لترامب ما يفعله لإنقاذه! فلا صفقة يمكنها إخراج إسرائيل من ورطة الـ”لا حرب” والـ”لا سلام”، ولا من ورطة الحرب الإقليمية المديدة بالسير نحو سلام منصف. فحتى لو مُنحت تل أبيب أشدّ الأسلحة فتكاً، لا أرى كيف لترامب أو بايدن إصلاح الردع الاستراتيجي الإسرائيلي، أو تغيير بيئة الصراع بعملية سلام جدّية.
قبل شهور عديدة من أحداث غزة، نشرتُ في “النهار العربي” مقالتين: أولى بعنوان “حين يكون غرور القوة خطراً وجودياً”، والثانية بعنوان “فيما تتسلّى إسرائيل بقص العشب تنمو الغابات من حولها”، لأشرح استحالة استمرار الوضع القائم في حينه، وحتمية انفجاره. لكن الحقيقة أن عناد نتنياهو فاق توقعاتي. وفيما تُطْبق الخيارات على نتنياهو، يسابق بايدن الزمن ويمدّ له حبل النجاة عبر اتفاقيات وقف إطلاق النار. لكنه لو استمر في الحفر في جورته، فحتى لو جاء ترامب، لن يجد ما يُصلحه.
– النهار العربي



























