يأتي زمن الانتخابات مصحوبا دائما بإيقاعه الخاص، وإذا كانت هنالك مبررات وجيهة للتحدث عن الإحصاءات ونسبها المئوية، والصورة التي يمكن أن تظهر عليها الأحزاب التقليدية والأحزاب المطاردة لها، فثمة أيضا متغيرات يمكن أن تؤثر على هذه الثوابت. في هذا السياق، لا يختلف اثنان على أن المشهد الفلسطيني يؤثر على الواقع السياسي الأوروبي عامة والفرنسي خاصة. لكن إذا أردنا أن نحلل الأمور سياسيا على المدى البعيد، فسرعان ما تضيق بنا السبل، أساسا لأن ما قد تبدو آفاقا جديدة تنير طريق المحلل، عادة ما ينتهي به المطاف إلى أن تنسد في وجهه هذه الآفاق لغلبة سيناريوهات متكررة تعود لتفرض نفسها. لكن للمحلل أيضا أن يلتقط النوافذ التي قد تبدو له مفتوحة لبناء سيناريوهات أخرى، علها تبقى في مستوى التحليل غير القابل للتطبيق إلى حين، صحيح، لكن أيضا على غاية من الأهمية لقراءة المستقبل مهما كان الحال.
و«الحين» و «الحال» موضوعنا. فإذا كان زمن السياسة يحكمه الكثير من الثوابت، فهو أيضا يحكمه الكثير من المتغيرات، وإذا كانت الأحزاب تحكمها الأيديولوجية، فهي أيضا تحكمها العقيدة. وإذا أخذنا الحالة الفرنسية مثلا، فالكل يعلم أن القضية الفلسطينية تمثل رهانا سياسيا وأيديولوجيا أساسيا في فرنسا، لكن التضامن مع الشعوب المقهورة عقيدة قديمة، لم تجد في المشهد السياسي الفرنسي ترجمتها الحديثة بعد.
كنا قد تحدثنا في مقال سابق عن «رمزية» النضالات التي أعقبت مراحل تاريخ النضال السياسي وحلقاته، وكيف أن العلم الفلسطيني بقي خيطا ناظما لعمل إبداعي متواصل. ونعلم كيف أن القضية الفلسطينية دخلت السياسة الفرنسية منذ زمان، لكن المشهد الحالي غير السيناريو المعتاد، خاصة بعد أن طرح جان لوك ميلنشون مواضيع لم تطرحها الأحزاب الفرنسية التقليدية منها، وضع المسلمين في فرنسا، والتعريف بالتاريخ الإسلامي – فهو السياسي الوحيد الذي تحدث عن المعتزلة في واحدة من أكبر المحطات التلفزيونية، في وقت من أوقات ذروة المشاهدة، ثم هو وحزبه من أثنيا، كما لم يثن غيرهما بالاعتراف بدولة فلسطينية من قبل عدد من الدول الأوروبية. وعندما نتحدث عن «فرنسا العصية»، لنا أن نعود إلى هذه الكلمة – عصية – وأن نطرح سؤال «عصية على ماذا؟ « لأن في نهاية المطاف، وحتى إن لم تشارك العقيدة الأيديولوجية للحزب، وأنا شخصيا لا أشاركها – بإمكانك أن تتوقف عند مبدأ آخر وهو أن الكثير من مطالب الشعب المشروعة مثل التوزيع العادل للثروات، واندماج المهاجرين والتعايش السلمي للأديان، والعدالة الدولية قضايا عابرة للأحزاب يجب أن تطرح بقوة. ولم يثر المشهد السياسي الفرنسي هذه القضايا بالقوة ذاتها التي أثارها منذ أن ظهرت فرنسا العصية. ولولا تأسيس حزب فرنسا العصية لما بدأ عمل أساسي محكوم على المشهد السياسي الحزبي الفرنسي تنفيذه ألا وهو إعادة هيكلة اليسار.
واللافت جدا ان الواقع العربي هو الذي حرك البيت الداخلي اليساري الفرنسي بطريقة لم تحدث له من قبل أبدا. لقد جلب بسط أحد نواب فرنسا العصية العلم الفلسطيني في جلسة من جلسات الجمعية الوطنية، وحدة صف من اليسار الفرنسي لم نشهد لها مثيلا منذ وقت طويل جدا. وكأن هذا المشهد جاء ليكمل حديثنا السابق عن النضال والرمزية، ليدخلنا في مجال ما دأب منظرو اليسار على تسميته بالـ»توضيح»، أي طرح جملة الأسئلة التي لا بد من طرحها عندما تبرز الحاجة إلى إصلاح تشكيلة حزبية. لا يزال اليسار الفرنسي يعاني من بطء إيقاعه الإصلاحي، لكن الربط بين العدالة والتقدم وتحسين اليومية المعيشية من أجل كل مكونات المجتمع، بغض النظر عن توجهاتها العقائدية… عقيدة في ذاتها يمكنها أن تجمع طيفا عريضا جدا من الناس. لكن بشرط بناء مشروع قويم البنيان متكامل الأركان. اتحاد اليسار الفرنسي رجع حلما لملايين من الفرنسيين الذين ينتظرون 1981 جديد، وهو تاريخ انتخاب فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية. والكل يعلم أن الجمهورية الفرنسية يصعب عليها الإدراك والإحاطة بخصوصيات الواقع العربي الذي يعيش في كنفها. لكن ماذا لو أدرك سياسيونا أخيرا أن الواقع العربي في فرنسا واقع جمهوري لا أكثر ولا أقل؟ وهذا من أكبر رهانات اليسار عندنا.
والأيام بيننا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
- القدس العربي


























