تخطو سوريا خطوات واسعة تعيد تعريف مكانها في النظام الدولي، بعد سنوات من العزلة والنزاع، فخلال أيام معدودة، يتجه الرئيس السوري أحمد الشرع إلى عدة وجهات استراتيجية: البرازيل، الولايات المتحدة، إضافة إلى الحديث عن التحضير لزيارة دبلوماسية هامة إلى الصين، في حراك سياسي يعتبر الأهم منذ عودة الدولة السورية إلى الاستقرار الداخلي والإقليمي، وفق مراقبين.
مؤتمر المناخ
وفي السادس من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، يغادر الرئيس الشرع دمشق متوجهاً إلى “بيليم” في البرازيل للمشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP30)، وهي المشاركة الأولى لرئيس سوري في أعمال المؤتمر منذ تأسيسه عام 1995.
الرسالة التي تحملها الزيارة، كما أشارت مصادر رئاسية، ليست تقنية بقدر ما هي إنسانية، فالرئيس الشرع ينوي التحدث أمام زعماء العالم عن “تجربة بيئية وطنية ممزقة”، حيث لم تُهدم المدن فقط بالقنابل، بل جفت أنهار، احترقت غابات، وتآكلت التربة، وسيُذكّر الحضور بأن “إعادة الإعمار لا تعني إسمنتاً وحديداً فحسب، بل إعادة التوازن بين الإنسان وأرضه”.
ومن المتوقّع أن يعقد الرئيس لقاءات ثنائية مع عدد من قادة دول الجنوب العالمي، أبرزهم رئيس البرازيل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، لبحث تأسيس شراكة خضراء بين الفرات والأمازون، تتركز على تبادل الخبرات في مواجهة التصحر، إدارة الموارد المائية، وتمويل مشاريع الطاقة المستدامة.
كسر العزلة
وفي هذا الصدد، قال الباحث في مركز جسور للدراسات، محمد سليمان في حديث لـ “المدن”: “تأتي هذه المشاركة في إطار جهود الدولة السورية المتواصلة لكسر العزلة الدولية التي فرضت في الماضي نتيجة سياسات النظام البائد ولإعادة بناء علاقاتها الدبلوماسية وما يتبع ذلك من تعاون اقتصادي، وتهدف إلى تأكيد جدية العهد الجديد والتزامه بالقوانين الدولية وحفظ السلم والأمن الدوليين”.
وأضاف: “تحمل هذه المشاركة رسالة واضحة مفادها أن سوريا اليوم تسعى لأن تكون عضواً فاعلاً ومسؤولاً في المجتمع الدولي، حتى في الملفات العالمية مثل البيئة، ويعكس حضور الرئيس أحمد الشرع لمؤتمر بيئي دولي، رغم الظروف السياسية والأمنية المعقدة داخل البلاد، حرص القيادة السورية على المضي قدماً في التزاماتها، ليس فقط في قضايا مكافحة الإرهاب والمخدرات، بل أيضاً في القضايا البيئية”.
وتابع: “تعد اللقاءات الجانبية خلال هذا المؤتمر فرصة مهمة لتعزيز حضور سوريا السياسي والتعريف بالرئيس الشرع، ولبناء علاقات جديدة مع المجتمع الدولي في إطار من الاحترام المتبادل والانفتاح”.
أما الأكاديمي والمحلل السياسي، الدكتور زكريا ملاحفجي، فقال في حديث لـ “المدن”: “زيارة الرئيس السوري لقمة المناخ في البرازيل ليست لأمور المناخ فقط، هي بوابة للدخول السياسي الشرعي الدولي الآن وليس الباب الأمني وباب الصراع فقط كما كان يراه العالم، وتثبيت سوريا الجديدة كدولة وليس “دولة ملف أمني” فقط، وهذا قد يحقق دعم مالي لسوريا ولقاء مع رئيس البرازيل وفرصة لقاءات هامشية تكون بوابة للكثير من اللقاءات اللاحقة”.
دمج البلاد بالمجتمع الدولي
أما الباحث والمحلل السياسي، حم شهاب الطلاع، فرأى في حديثه لـ “المدن” أن: “زيارة الرئيس إلى البرازيل ومشاركته في قمة المناخ تندرج ضمن مساعي سوريا للتفاعل مع القضايا العالمية، ومن أبرزها قضية التغيّر المناخي، وهذه المشاركة ليست رمزية فحسب، بل تأتي في سياق جهود القيادة السورية لإعادة دمج البلاد في المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة”.
ولفت إلى أنه: “خلال العقد الماضي، وُجدت سوريا ضمن محور جيوسياسي اتُهم بأنه ساهم في زعزعة الاستقرار العالمي، لا في دعم القضايا المشتركة مثل الأمن، والاقتصاد، والبيئة، أو المناخ، وقد أدّى ذلك إلى عزلة دبلوماسية واسعة”.
إلغاء قانون قيصر
من جهة أخرى، لم يكن متوقعاً قبل أشهر أن يطأ رئيس سوري أرض البيت الأبيض، لكن الضغوط الداخلية الأميركية تراكمت لدرجة دفعت الكونغرس إلى اتخاذ خطوات حاسمة، فقد أقر مجلس الشيوخ ضمن قانون تفويض الدفاع الوطني إلغاء قانون قيصر، العقوبات الأمريكية التي طالما شلّت الاقتصاد السوري.
والزيارة المرتقبة للرئيس الشرع إلى واشنطن، والمقترحة يوم الاثنين 10 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، تأتي بعد جهود دبلوماسية وشعبية متعددة الأوجه: من نداءات الجالية السورية الأميركية، إلى رسائل من يهود سوريين سابقين، مروراً بحملات من غرفة التجارة الأميركية ومنظمات إنسانية تطالب برفع العقوبات “دون شروط”، لتمكين الشعب السوري من العودة إلى الحياة الطبيعية.
ومن المنتظر أن يلتقي الشرع مع الرئيس دونالد ترامب في لقاء وُصف بأنه “تاريخي”، بهدف دفع الإدارة الأميركية إلى إتمام إلغاء العقوبات بالكامل، لا سيما في ظل دعم واضح من فريق ترامب، رغم تحفظات بعض النواب مثل براين ماست، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب.
شريك محتمل
الرسالة السورية إلى واشنطن واضحة: “سوريا لم تعد ساحة للصراعات الإقليمية، بل شريكاً محتملاً في الاستقرار، شرط أن يُرفع عنها الحصار الاقتصادي الذي زاد من معاناة سكانها أكثر من أي سلاح”.
وفي هذا الجانب قال ملاحفجي: “هذه الزيارة تعني نظرة جديدة لواشنطن لسوريا كملف قابل للتحالفات ضد محاربة الإرهاب، والاتفاق الأمني مع إسرائيل، إضافة إلى بدء تفكيك تدريجي لعقوبات قيصر، حيث يبقى تصويت مجلس النواب على رفع عقوبات قانون قيصر، إضافة إلى أنها اعتراف عملي بأن سوريا الجديدة دولة قادرة على تعددية محاور”.
وتابع: وكذلك الأثر الدولي لزيارة واشنطن تغيّر تصنيف سوريا في العالم كله، لأن انفتاح أميركا على سوريا يعقبه انفتاح أوروبا”.
صفحة جديدة
وحول تلك الزيارة، قال حمد شهاب الطلاع: “نشهد اليوم تحولاً واضحاً في النهج. الحراك الدبلوماسي الذي يقوده الرئيس أحمد الشرع، ولا سيما زيارته المرتقبة إلى واشنطن، يكتسب أهمية استثنائية، فهذه ستكون أول مرة يزور فيها رئيس سوري البيت الأبيض شخصياً، وليس الولايات المتحدة كدولة فقط، وبالتالي فإن الدعوة المباشرة من الرئيس الأميركي تُعدّ إشارة قوية إلى رغبة مشتركة في فتح صفحة جديدة”.
ومن المتوقع أن تتناول المباحثات، حسب شهاب الطلاع، قضايا حساسة، أبرزها بناء تحالف دولي واسع النطاق، ليس فقط لمكافحة الإرهاب، بل لمواجهة تحديات جيوسياسية أوسع، قد يشمل هذا التحالف الغرب ودولاً عربية وإسلامية، في مواجهة تحركات المحور الشرقي (بقيادة الصين وحلفائها) نحو مناطق ذات أهمية استراتيجية في الشرق الأوسط.
كما أن الملف السوري الإسرائيلي سيكون حاضراً بقوة، فإسرائيل لم تعد تكتفي بالتدخل العسكري في الشأن السوري، بل تعمل عبر أدوات محلية لتأجيج الفوضى وتعزيز التجزئة، سواء على مستوى الأرض أو المجتمع، ومن شأن أي تفاهم في هذا السياق أن يُسهم في حماية وحدة التراب الوطني السوري وتماسك نسيجه الاجتماعي، وفق الطلاع.
وأضاف: “الأهم من ذلك أن الإدارة الأميركية الحالية تُظهر اهتماماً حقيقياً بإعادة بناء دول الشرق الأوسط التي أنهكتها الحروب، والمليشيات، والانقسامات، إذ تُعتبر سوريا في صلب هذه الرؤية، خاصة بعد أربعة عشر عاماً من الحرب المدمرة”.
وختم: “الرئيس ترامب، في سياق رؤيته الاستراتيجي، يبدو حريصاً على تمكين مؤسسات الدولة في المنطقة من استعادة السيطرة والفعالية، وسوريا تُعدّ نموذجاً محورياً في هذا الجهد، ولذلك، نحن كسوريين نعلّق آمالاً كبيرة على هذه الزيارة، فهي قد تمهد لانفتاح دولي حقيقي، ورفع للعقوبات الاقتصادية، وفتح الباب أمام الاستثمارات الإقليمية والدولية، مما سيساعد في إعادة إعمار الاقتصاد وبناء مؤسسات الدولة من جديد”.
زيارة إلى الصين
وفي محطة ثالثة تُكمل مثلث التحوّل، يُعدّ الرئيس الشرع للقيام بزيارة إلى العاصمة الصينية بكين، تلي زيارة واشنطن، بحسب ما أعلنه وزير الخارجية أسعد الشيباني، الذي سيقود وفداً اقتصادياً رفيع المستوى إلى الصين خلال نوفمبر الجاري، استعداداً للقاء الرئاسي المرتقب.
ووصف الشيباني العلاقة مع بكين بأنها “تعود إلى مسارها الصحيح”، بعد سنوات من اصطفاف الصين إلى جانب “النظام السابق”، في إشارة ضمنية إلى المرحلة التي سبقت انتقال السلطة.
وتشير مصادر دبلوماسية إلى أن بكين مستعدة لتقديم حزمة استثمارية متكاملة، تشمل مشاريع في موانئ طرطوس وبانياس، وتنمية المناطق الصناعية، ضمن رؤية مشتركة تتماشى مع مبادرة “الحزام والطريق”.
وقال الشيباني في مقابلة صحفية سابقة: “نحن بحاجة إلى شراكات حقيقية، لا إلى وعود عابرة، والصين، بتجربتها التنموية، تقدم نموذجاً لا يُستهان به للدول النامية التي تسعى للاعتماد على ذاتها”.
وفي هذا الجانب، قال ملاحفجي: “هذه الزيارة تأتي بعد واشنطن وليس قبلها، وهذا الترتيب مهم جداً ويضاعف قيمة الزيارة، وهذا تثبيت أن سوريا ليست دولة محور واحد”، مشيراً إلى أن: “الصين دولة مهمة جداً لسرعتها في إعادة الإعمار وانخفاض التكلفة، كما أن الصين تساعد على إدخال سوريا في مشاريع ممرات مبادرة الحزام وطريق الحرير القديم، وربما فتح قروض إعادة إعمار بشروط أقل من البنك الدولي”.
واعتبر أن “البعد الاستراتيجي لهذه الزيارة بعد واشنطن ستجعل الصين تتعامل مع سوريا بمستوى “دولة قابلة للاندماج الغربي، وهنا تصبح سوريا اللاعب الذي يمكن الاستثمار معه وليس الملف الذي تدفع عليه ثمن سياسي”.
وختم: “الزيارات الثلاث ليست ثلاثة محاور منفصلة بل هي 3 حلقات لصناعة سردية: وهي أن سوريا دولة لاعبة وليست ملف أمني فقط”.
ووسط كل ذلك، فإن ما يجري اليوم ليس سلسلة زيارات روتينية، بل استراتيجية دبلوماسية متكاملة تهدف إلى إعادة دمج سوريا في النظام الدولي، ليس كدولة هامشية، بل كـ”حالة خاصة” في الجنوب العالمي، قادرة على المساهمة في قضايا وجودية مثل المناخ، الأمن الغذائي، والاستقرار الإقليمي.
- المدن


























