تتجدّد سنوياً أزمة المناهج التعليمية في المدارس المسيحية في محافظة الحسكة شرقي سوريا، حيث يجد القائمون عليها أنفسهم عالقين بين سلطة الإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تفرض مناهجها، وبين الحكومة السورية الجديدة التي تؤكد على أهمية وضرورة تدريس مناهجها الرسمية.
ورغم الوساطات المتكررة، تبقى مدارس الأطفال رهينة صراعات سياسية لا علاقة لهم بها، في ظل مخاوف من تعثّر مستقبل آلاف التلامذة وتزايد موجات الهجرة بحثاً عن استقرار تعليمي.
وقبل أيام، نجحت الكنائس في إجبار “قسد” على التراجع عن الاستيلاء على المدارس التابعة لها وعن منهاج “قسد”، والعودة إلى المنهاج الحكومي.
وأعلن مجلس الكنائس في الجزيرة والفرات في بيانٍ صدر، الأحد، التوصل إلى اتفاق مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا يقضي بالسماح لمدارس الكنائس بتدريس منهاج وزارة التربية التابعة للحكومة السورية خلال العام الدراسي الحالي 2025 – 2026.
دعوة للهجرة
وكانت هيئة التربية التابعة لـ”قسد” اتهمت المدارس التابعة للكنائس بتدريس ما وصفته بـ”المنهاج الحكومي البعثي”، في حين دعا مؤيدو “قسد” كل من يرغب بتدريس المنهاج الحكومي إلى الرحيل نحو دمشق، الأمر الذي أثار موجة من الاستياء بين المسيحيين وكثير من السوريين داخل سوريا وخارجها.
وحسب مصادر متطابقة، يبلغ عدد المدارس المسيحية في محافظة الحسكة 23 مدرسة لجميع المراحل التعليمية، يتم التعليم فيها وفق المناهج الحكومية المعتمدة من قبل وزارة التربية والتعليم السورية.
عقوبة جماعية
من جهته، أدان المرصد الآشوري لحقوق الإنسان الطريقة التي تم بها التعامل مع ملف المدارس المسيحية في الجزيرة والفرات، مؤكداً أن البيان الصادر عن مجلس الكنائس بتاريخ الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2025 بخصوص استئناف الدوام، يكشف عن سياسة ممنهجة لتعطيل وإضعاف المؤسسات التعليمية الأصيلة.
ويلفت البيان، إلى أن هذا التأخير المتعمد، الذي أضاع أكثر من شهر من العام الدراسي، هو بمثابة عقوبة جماعية فُرضت على الطلاب وأسرهم نتيجة لتجاذبات لا علاقة لهم بها.
ويحذر البيان، الإدارة الذاتية الكردية “من مغبة الاستمرار في هذا العبث السياسي بمصير المؤسسات التعليمية”، مطالباً بـ “تحييد المؤسسات المسيحية، وخصوصاً المدارس، عن لعبة الأوراق السياسية”.
فرض المناهج الكردية
ويقول مدير المرصد الآشوري لحقوق الإنسان جميل ديار بكرلي في حديث لـ”المدن” إن “أزمة المناهج بدأت قبل أكثر من ثماني سنوات مع الإدارة الذاتية، وبعدما تشكلت هيئة التربية والتعليم في الإدارة بدأت بتغيير المناهج في كل مناطق الإدارة الذاتية وفرض التعليم باللغة الكردية، وفي المقلب الآخر كانت وزارة التربية في عهد النظام السابق تهدد الكنائس بأن أي منهاج آخر غير منهاج الوزارة يدرس في تلك المدارس سيؤدي إلى سحب ترخيص هذه المدارس”.
ويشير إلى أنه في ذلك الوقت “كانت تماثيل وصور الأسد الأب والابن لا تزال مرفوعة في ربوع الجزيرة السورية وكل الأفرع الأمنية موجودة أيضاً”.
خلاف ذو طابع سياسي
ويرى ديار بكرلي أن “الخلاف طابعه سياسي قبل كل شيء، ومن ثم تعليمي، بالنسبة لبعض الجهات في الإدارة الكردية فالمدرسة المسيحية لمجرد كونها لا تزال متمسكة بالمنهج الدراسي الخاص بدمشق فهذا يعني أنهم لا يزالون موالين للنظام السابق، وهذا الأمر غير صحيح بالمجمل، كل ما في الأمر أن هذه المدارس تتمسك بالمنهاج السوري كونه منهاج رسمي معترف به من اليونسكو”.
وعن أبرز ملاحظاتهم على منهاج الإدارة الذاتية؟ ولماذا يعتبرونه غير معترف به دولياً؟ أوضح ديار بكرلي بالقول: “المنهاج يستند إلى فكر حزب العمال الكردستاني في الكثير من مواده، ناهيك عن وجوده مغالطات كثيرة تاريخية وعلمية، وهو صادر عن جهة غير معترف بها رسمياً كدولة أو كحكم ذاتي، بل عبارة عن قوة أمر واقع فرضتها الظروف، وقد تتقوض نتيجة الظروف أيضاً، فهي موجودة اليوم ولكن قد لا تكون غداً”.
أزمة متجددة
وفيما يخص المفاوضات أو محاولات الوساطة بين الكنائس والإدارة الذاتية قال ديار بكرلي: “هذه الأزمة تتفاقم كل عام وتجري وساطات واجتماعات كثيرة، ومن ثم يؤخذ قرار بعودة التدريس بالمناهج نفسها لعام واحد فقط، بمعنى أنها أزمة متجددة تحاول الإدارة الكردية من خلالها لي ذراع المجتمع المسيحي الذي قد يتساهل بكل شيء عدا موضوع المدارس ومستقبل أطفاله”.
وحول البيان الكنسي الأخير الذي دعا إلى استئناف الدوام وفق المنهاج السوري الرسمي، ورأيهم به، قال ديار بكرلي: “البيان صحيح حول أزمة المدارس لهذا العام وإن أتى متأخراً لمدة شهر عن بدء العام الدراسي، إلا أنه يفضح هذه الإدارة بشكل ضمني وطريقة تعاملها مع المكونات في المنطقة وفي مقدمتهم المسيحيون”.
تعثر العملية التعليمية
وحول أبرز الصعوبات التي تواجهها المدارس المسيحية اليوم بسبب هذا الخلاف يشير ديار بكرلي إلى أن “أهم الصعوبات تعثر العملية التعليمية، إرهاب الأطفال بسبب دخول عناصر مسلحة للمدارس وإهانة الكادر التعليمي وأحيانا طرد الجميع وإغلاق المدارس، والأهم موضوع هجرة العائلات بحثاً عن مناطق فيها استقرار تعليمي لأطفالهم بعيداً عن عبث العابثين”.
وفيما إذا كانت الإدارة الذاتية تستخدم الملف التعليمي كورقة ضغط في صراعها مع دمشق، أجاب ديار بكرلي: “لا أعتقد ذلك بقدر ما تستخدم هذه الورقة للداخل، لتطويع المجتمع المسيحي ومن خلاله باقي المجتمعات التي لا تزال غير مقتنعة بالإدارة الذاتية”.
وحول دعوتهم المجتمع الدولي للتدخل، ونوع التدخل الذي يطالبون به تحديداً، أوضح قائلاً: “طالبنا بالضغط على الإدارة الكردية لتحديد المدارس عن الصراع القائم، خصوصاً وأن الكثير من هذا المجتمع الدولي يرى في تجربة الإدارة الذاتية تجربة ناجحة وديمقراطية ويدعمها، بينما هي على عكس ذلك تجربة إقصائية تستعمل التنوع كواجهة شكلية، ولم تستطع حتى اللحظة كسب ثقة الشارع ولا تأييده”.
وختم ديار بكرلي بالقول: “لا أعتقد أن هناك خطوات عاجلة أكثر من استقرار الأوضاع في سوريا وبالتالي استقرار كل مناحي الحياة.
أما بخصوص المدارس أمامنا حلين، الأول القبول بمنهاج دمشق الحالي، أو على الإدارة الكردية قوننة حالتها والعمل على كسب تأييد وترخيص دولي لمناهجها ومدارسها، وبالتالي تنتفي أي حجة لدى معارضيها في هذا المجال، وحتى ذلك الوقت أعود وأكرر أن تعافي سوريا السريع هو الحل الأمثل لاستقرار كل هذه الملفات وحلها”.
- المدن


























