لا يمكن الفصل بين انطفاء ضوء المنزل وبين انطفاء شعلة الأمل في وطن منهك؛ فهما وجهان لعملة الكرامة المسلوبة. حين تُصبح فاتورة الخدمات سلاحاً مدمراً يلتهم ربع دخل العائلة، وحين يتم اتخاذ قرار رفع سعر هذه الفاتورة ستة أضعاف دفعة واحدة، فإن الصدمة الاقتصادية تتجاوز المنزل لتمتد نارها إلى الأسواق. هذه الصعقة في “العلاج” مؤلمة، إذ ترفع بالمقابل أسعار فواتير أخرى كثيرة بشكل فوري ومضاعف؛ بينما لو رُفعت الأسعار بضعف أو اثنين لابتلعه الناس ربّما، لكنه- الارتفاع الجنوني- يُعرّي هشاشة الرؤية الوطنية وغياب البوصلة نحو المستقبل العادل. الأزمة اليوم ليست فنية، بل هي أزمة ثقة مكسورة، تتقاطع مع الغلاء الفلكي، وتهدد بشكل مباشر جوهر أحلامنا الوطنية في تحقيق الاستقرار، وإطلاق الإعمار، وتأمين عودة كريمة للاجئين إلى مأمن. المواطن الذي يواجه ظلمة تبتلع أيامه وعبئاً اقتصادياً يُطبق على أنفاسه، لا يكترث للخطابات البليغة؛ بل يسأل سؤالاً بتوجع ومرارة: “متى تشرق شمس كرامتنا؟“
إن ضوء المنزل ليس مجرد كهرباء، بل هو ضوء المستقبل السياسي للبلد. لذا، يجب أن تستيقظ الدولة لتستعيد دورها كـضامن ومُوجّه مركزي للحلّ، فالاستقرار لا يُصنع في قاعات التفاوض البعيدة، بل يُحاك على نول داخل كل أسرة، تحصيناً لها ضد “سادية التقنين“.
الحل ليس حُلماً بعيداً، بل يكمن في تحويل مسار الدعم المُهدر إلى إستراتيجية وطنية تُدار مركزياً، ليتحول المواطن من ضحية للظلام إلى شريك فاعل في إضاءة الوطن.
في ظل المأزق الاقتصادي الذي تفاقم بصدمة الارتفاع المباغت للأسعار، يجب على الدولة أن تضع نصب عينيها حقيقة أن العجز في تكلفة الكهرباء يمكن ويجب سدّه من جيوب أخرى غير جيوب السواد الأعظم من السوريين. لا يمكن تحميل الفاتورة لمن لا يملك سدادها. هذا يتطلب أن تتحمل الدولة مسؤولية إدارة التحوّل بشجاعة وشفافية مطلقة، عبر إصدار قرار عاجل يفرض نظام تسعير متدرج وواقعي، فيدفع أصحاب الاستهلاك المرتفع والمترف (كالشركات الكبرى والفنادق والمولات) تعرفة تغطي التكلفة الحقيقية وتُسهم في سد العجز، بينما يتم تخفيف العبء عن المواطنين ذوي الدخل المحدود الذين هم أحق بالرعاية والدعم. ووقف هدر الموارد المخصصة للوقود المستورد والفساد وتحويلها بقرار مركزي إلى دعم للأصول المنتجة التي تُبنى عليها الاستدامة والأمل. فتشرف الدولة مركزياً على خطط التمويل الميسّر وشراء حلول الطاقة المتاحة، لضمان العدالة وتكافؤ الفرص.
هذا التجهيز ليس مجرد مصدر طاقة بديل، بل هو وثيقة اعتراف بالكرامة تدار وتُعمم كجزء من استراتيجية حكومية لا تساوم على لقمة العيش.
فلا يمكن لعملية إعمار أن تبدأ، ولا يمكن لقلب لاجئ أن يطمئن بالعودة، دون أن تمد الدولة يدها الضامنة لتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم. إن العائلة النازحة لن تعود إلا حين ترى بصيص أمل يصدر من قلب المركز الحاكم بأن كرامتها معيشياً لن تُهان مجدداً. هنا، يصبح مبدأ “صفر فواتير“ ليس مجرد حافز اقتصادي، بل جسر ثقة تلتزم به الدولة للمواطن المتردد. هذا الالتزام الرسمي والمُعلن يرسخ أن جهد الدولة وتوجيهها يضمن أن الجهد الذاتي للمواطن لإضاءة بيته سينتج كرامة لا عبئاً، وهذا هو الحجر الزاوية الحقيقي للعودة الآمنة والكريمة.
إن التحدّي اليوم ليس في إضاءة الدولة كلها دفعة واحدة، بل في إضاءة عتبات المنازل أولاً ضمن إستراتيجية وطنية متماسكة عادلة. هذا هو الكفاح الحقيقي والملهم الذي يشحن النفوس للتقدّم، لأن الحلول الممكنة والملموسة تولّد أملاً لا يمكن أن يطفئه ظلام.
الضوء اليوم ليس امتيازاً، بل سلاحاً للبقاء، ومفتاحاً أساسياً لتحقيق الطموحات السياسية الكبرى التي تتطلب أرضية صلبة من الكرامة المعيشية، تضمنها وتوجّهها المؤسسات المركزية كرمز للسيادة الوطنية المستعادة.
- رئيس التحرير





















