تقترب سوريا من نهاية عامها الأول على سقوط الديكتاتور بشار الأسد، لكن ثمة تحديات لا تزال أمام الحكومة الجديدة، وخاصة بعد الوعود الكثيرة التي قدمت للناس، وأبرز تلك التحديات المتعلقة بشروط الحياة المعيشية والاجتماعية، خاصة أن معظم السوريين (نحو 90 في المئة) يعيشون تحت خط الفقر، فالحديث عن وضع خطة شاملة لإعادة الإعمار الاقتصادي غير واضح وتعوزه الشفافية. وأكثر المشكلات التي برزت مؤخراً، مشكلة الطاقة (الكهرباء والمشتقات النفطية) وتسعيراتها بالدولار وما تحمله من مخاطر، وإعادة الموظفين إلى وظائفهم، حيث تعالج المشكلات بطريقة يمكنها أن تولد مزيداً من الاستياء وتقوض العدالة الاجتماعية كأحد أسس الحياة الكريمة.
يعاني قطاع الطاقة بكل فروعه من أشد أشكال التدمير قسوة، فقطاع الكهرباء، الذي يمثل عصب الحياة وأساس النمو وإعادة الإعمار، تصل خسائره حسب التقديرات الأولية إلى (40) مليار دولار، تبدأ من محطات التوليد إلى محطات التحويل وشبكات النقل والتوزيع وصولاً إلى العدادات التي تمثل الميزان بين الشركات والمشتركين. يفرض حجم الدمار هذا وضع تصور واضح وعلني لخطة إعادة بنائه وإصلاح ما هو قائم، بطريقة تحقق التوازن بين مصالح الشركات والجهة المستهلكة للطاقة، وفي سوريا، حيث نسبة الاستهلاك المنزلي هي الأكبر إذ تصل لنحو 85 في المئة من مجمل الطاقة، يصبح من الضروري أخذ الحالة المعيشية للمواطن السوري في ظل ظروفه المعيشية المعروفة (تحت خط الفقر) حسب تصنيفات الأمم المتحدة، ومع غياب فرص العمل وانتشار البطالة وبطء دورة الاقتصادية في مجالات الصناعة، إضافة لحالة الجفاف وما تركته من أثر على حياة الريف السوري.
إن مراجعة بسيطة لسعر الطاقة يظهر الفجوة الكبيرة والآخذة في الاتساع بين سياسة الحكومة في الإصلاح وحال المواطنين، فالغاز (11.8 والبنزين 1.1، والكهرباء 0.14) دولار، بينما وسطي الدخل السوري لمن يعمل نحو (100) دولار.
وأولى الأخطاء التي تعاملت معها الحكومة الحالية مع مسألة الطاقة هي سياسة الدولرة (Dollarisation) الجزئية، التي تُسوَّق كأداة استقرار مالي وتشجيع للاستثمار، فهي ليست مجرّد أداة مالية، إنها تحويل للسيادة الاقتصادية من الدولة إلى السوق، ومن المواطن إلى المستثمر. وتأتي سياسة الحكومة الحالية في تسعير مشتقات الطاقة (الغاز وغيره من المشتقات النفطية) وأخيراً الكهرباء بالدولار، بما يتوافق مع القيم الحقيقية للأسعار والكلف الإنتاجية، بينما يتقاضى عموم السوريين أجرهم بالليرات السورية ضمن حجة الإصلاح وإعادة البناء بشكل سليم ، لتعكس في واقع الأمر مصلحة المستثمر أكثر من مصلحة المواطن، الذي ينبغي ألا يكون ممولاً غير مباشر لرأس المال الأجنبي، فأخذ دخل الناس بالحسبان يصبح ضرورة، ليس لشراء الولاء وإنما لتحقيق علاقة متوازنة بين الناس ودولتهم بما يؤمن شرعية لنظام الحكم.
إن مراجعة بسيطة لسعر الطاقة يظهر الفجوة الكبيرة والآخذة في الاتساع بين سياسة الحكومة في الإصلاح وحال المواطنين، فالغاز (11.8 والبنزين 1.1، والكهرباء 0.14) دولار، بينما وسطي الدخل السوري لمن يعمل نحو (100) دولار، وحالة الارتجال في سياسات الإصلاح المزعوم التي تتطلب مثل أي عملية وجود الكادر التقني والبيروقراطي والقرار السياسي المدروس الذي يضع التوازن بين طرفي العملية الإصلاحية: الاستثمار وظروف الناس، أما السعي فقط لخلق بيئة تشجع المستثمر، فنتيجته معروفة والتجارب كثيرة على ذلك: المزيد من الاستياء الاجتماعي بين الناس، ناهيك عن أن ذلك لن يحقق ما يسعى المستثمر والعملية برمتها من تحقيق هدفها المتمثل في التنمية وزيادة معدل النمو، فارتفاع أسعار المواد وتوفرها بغزارة في ظل تدني دخل الناس سيوصل لما يعرف بالركود، فتجربة “المولات” ووفرة المواد لا علاقة لها بالإصلاح، ولا تعني بأي حال أننا بحالة نمو.
والمشكلة الأخرى، هي إعادة الكوادر والعمال والموظفين الذي فصلهم النظام الأسدي بسبب تركهم العمل والشروط المذلة لإعادتهم، ومن الغرابة سؤالهم عن العمل “الثوري” الذي قاموا به خلال الفترة الماضية، وكأن العمل الثوري مختصر بملخصات توفر علامات النجاح لمن يتقنها، والأمر الآخر، أن غالبيتهم وجدوا أنفسهم خاضعين لأحكام قاسية من النظام الأسدي سواء بالسجن أو الغرامات أو بكليهما، لكن الباب مفتوح للتخلص من تلك العقوبات من خلال طلبهم للمحاكم بأن يشملهم العفو الصادر من النظام الأسدي في العام 2023، في حين أنه يمكن للحكومة الحالية إعادتهم بقرار يتضمن إسقاط كل العقوبات الصادرة بحقهم، وهم قدموا ما استطاعوا في سبيل الخلاص من النظام الأسدي، وأقله أنهم لم يشاركوا النظام بأي عمل دموي!
عانت سوريا خلال العقود الماضية من أسوأ نظام حكم عرفته البشرية وعلى كل المستويات من القمع وصولاً لحرق البلد ومن سياسة المحسوبية ونهب البلاد، وتصميم خطط جديدة للنهوض بالبلاد يجب أن تأخذ هذا بالحسبان
يؤكد غياب خطة ورؤية متكاملة لإعادة بناء الدولة ولإعادة الإعمار الاقتصادي، على غياب أو تغييب الإطار المؤسسي للبلاد وسعي الحكومة نحو سياسة تلبي مصالح المستثمرين أكثر من السوريين، فالسعي لتحقيق إيرادات سريعة من خلال مشاريع عقارية وعرض مرافق البنية التحتية الرئيسية للمستثمرين الأجانب، بما في ذلك الطاقة والصناعة والخدمات وانعدام الشفافية فيما يتعلق بتفاصيل العقود، والتسويات مع رجال الأعمال المقربين من نظام الأسد، واتباع سياسة الدولرة ولو جزئياً وتبني نهج السوق الحرة من دون ضوابط لن يضع البلاد على سكة الإصلاح وإعادة الإعمار، خاصة أن البلاد تعاني من حالة فقر شديد واقتصاد منهك، بل يدخلها في نمط كارثي من الرأسمالية، نمط متوحش يأكل كل ما حوله لمصلحة فئة ضيقة.
عانت سوريا خلال العقود الماضية من أسوأ نظام حكم عرفته البشرية وعلى كل المستويات من القمع وصولاً لحرق البلد ومن سياسة المحسوبية ونهب البلاد، وتصميم خطط جديدة للنهوض بالبلاد يجب أن تأخذ هذا بالحسبان، وهذا يعني خطة توازن بين الانفتاح الاقتصادي وحرية السوق من جهة وحماية الفئات الضعيفة وهم الغالبية من جهة أخرى ومشاركتهم بتقرير مصيرهم السياسي والاقتصادي من دون
وضع الفترة الأسدية، وهي أشد الفترات كارثة في تاريخ سوريا، كجملة مقارنة عند توجيه أي انتقاد، أما تصميم الخطط وفق مصالح طرف واحد أي كان سينهك البلاد أكثر، فتجارب الاعتماد على الخارج وعلى المستثمرين أثبتت فشلها في أكثر من مكان، كما أن تجاهل البعد الاجتماعي لأي سياسة اقتصادية لا يؤدي إلا إلى مزيد من التفاوت والاحتقان، وربما إلى انفجار اجتماعي جديد.
- تلفزيون سوريا






















