كأن الأرض التي اسمها سوريا لم تكن يوماً طيّعة في يد التاريخ. كأنها كانت دائماً جغرافيا ذات رأي، وموقعاً له طقسه الخاص في الحسابات والخرائط.
كأنها وُلدت لتكون فاعلة في قلب التاريخ، لا شاهدة عليه فقط. فمنذ آلاف السنين، والجغرافيا السورية ليست خلفيةً للأحداث بقدر كونها صانعةً لها.
لكن هذه الجغرافيا العريقة، التي وُلدت من التقاء البحار بالصحارى، ومن عبور الأنبياء والجيوش والأفكار، وجدت نفسها، طوال أكثر من خمسة عقود، تُدار كما تُدار حظيرة. وتُختزل كما تُختزل مزرعةٌ في دفتر الديون.
وإذ يفتح السوريون عيونهم اليوم على كمون بلدهم، فإنهم يدركون أن ما فعله نظاما الأسد، الأب والابن، بهذا البلد العظيم، يتجاوز حدود الجريمة السياسية إلى ما يُشبه الإبادة المعنوية لشعبٍ ومكان. فخلال أكثر من خمسين عاماً، تحوّلت سوريا من دولةٍ حيوية ذات موقعٍ إقليمي مركزي، إلى كيانٍ مدجّن، خائف، مكبّل بإرادة أمنية عمياء، فاقدٍ لهويته السياسية والاقتصادية والثقافية. وبالحصيلة، اختُزل الوطن كله في شخصٍ واحد، وتحوّلت الدولة إلى جهاز مخابرات، والمجتمع إلى ملف، والناس إلى أرقامٍ في دفاتر التقارير.
لكنّ التاريخ، على قسوته، لا يحكم بالإعدام على الأوطان، بل يُبقي فيها جمرةً كامنة لا تنطفئ، تنتظر من ينفخ فيها بحكمةٍ وإرادة. وهكذا، وفيما كانت المنطقة تتغير بعنف، والخرائط فيها تتشظى، والأمل يُعدّ من ضروب الخيال، بدأت تتشكل بهدوءٍ غريب، ملامح خروج سوريٍ من ركام الهزيمة. لم يحصل ذلك بشعارات، ولا بخطاباتٍ نارية، وإنما ببداية تفكيرٍ عقلانيٍ منظم، تنبّه إلى أن المكان لا يعود إلى أصحابه بالضجيج، وإنما بالهندسة البطيئة الدقيقة. وإلى أن من خسر نصف قرنٍ بالدم، لا بد أن يبدأ استعادة ما تبقى منه بالعقل.
وها نحن، في خضم الأحداث المتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، بعد أقل من عامٍ على التحرير، نرى كيف تقف سوريا فعلياً على أعتاب مرحلة استراتيجية جديدة، يتقاطع فيها الداخل مع الإقليم، وتتقاطع فيها التحولات السياسية مع فرص التنمية، ضمن مشهد إقليمي ودولي بالغ التعقيد، ولكنه يفتح، لأول مرة منذ أكثر من عقد ونصف، كوةً حقيقية في جدار الانسداد.
ليس سراً، هنا، أن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن مثّلت منعطفاً تاريخياً في مسار سوريا الحديث. فبهذه الخطوة الرمزية ـ الاستراتيجية، يبدو واضحاً أن سوريا الجديدة قد خرجت فعلياً من عنق الزجاجة الاستراتيجية، ومن حالة المراوحة الإقليمية والدولية، وأنها لم تدخل فقط عملياً في مرحلة إعادة التموضع، وبشكلٍ متميز، ضمن النظام الدولي. وإنما انتقلت، في دورها السياسي، من موقع الدفاع إلى موقع الفعل والتأثير. ففي النظام الدولي، لا يمكن النظر إلى عبور رئيس دولة كانت تحت العقوبات والمقاطعة إلى البيت الأبيض على أنه مجرد إشارة رمزية، وإنما هو تغيير في قواعد الاشتباك الجيوسياسي، وإعادة إدماج في معادلة القرار الدولي. أما الحديث المتصاعد عن احتمال قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه بزيارة إلى دمشق في المرحلة القادمة، فلن تكون فقط، في حال حصولها، قمة السُّريالية في المشهد السوري، وإنما ستكون إعلاناً صريحاً عن نهاية مرحلة وبداية أخرى، تُرسم فيها خطوط الشرق الأوسط المقبل بمقاييس مختلفة تماماً. وتصاحبها رسالةٌ لا لبس فيها للعالم أجمع بأن التموضع الدولي لسوريا قد أُعيدت صياغته بالكامل.
لكن الأهم من الحدث هو إدراك سياقه العميق. فمن المعروف في نظريات الشرعية السياسية أن تحقيق مثل هذا الإنجاز في العلاقة مع القوى العظمى يُعيد تشكيل البيئة السياسية الداخلية بشكل مباشر، لأنه يخلق إطاراً دولياً حامياً لأي تحولٍ تنموي حقيقي. فالاقتصاد لا يتحرّك في العدم، والاستثمار لا يأتي إلى فراغ سياسي أو إلى حالة عزلة دبلوماسية.
ولهذا، فإن الحراك الدبلوماسي السوري غير المسبوق منذ لحظة إعلان التحرير لا يمكن أن يُقرأ من زاوية استعراضية كما يروّج البعض، وإنما يجب النظر إليه كأداة استراتيجية في سياسات القوة الناعمة وإعادة صياغة العلاقة مع البيئة الدولية بما يخدم الاستقرار الداخلي. ومن الخطأ الاستراتيجي الاستمرار في اجترار النظرة الطفولية التي ترى أن «الزيارات الخارجية لا تفيد الداخل»، أو أنها مجرد تضييع وقت. فالعكس تماماً هو الصحيح. بمعنى أنه لا تنمية دون شرعية دولية، ولا شرعية دون تسويات، ولا تسويات دون دبلوماسية نشطة وشجاعة ومتماسكة.
المطلوب اليوم هو بناء سردية وطنية جديدة، لا تلغي أحداً ولا تقدّس أحداً، وإنما تعترف بالتنوع وتؤطره في مشروع دولةٍ واحدة، عادلة، وفاعلة
ما يُعزز هذه القراءة هو المعطيات المتوافرة حول تفاصيل الزيارة نفسها، وما جرى فيها من اتفاقات ثنائية وثلاثية. فإلى جانب اللقاء التاريخي بين الرئيس الشرع ونظيره الأمريكي، شهدت الزيارة انضمام وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى مفاوضات ثلاثية، ما يشير إلى عمق البعد الإقليمي للترتيبات الجارية. ثم جاءت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، في توقيت حساس، لتضع اللمسات النهائية على الملف الإقليمي الذي تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى، وتبرز فيه سوريا كبلد ارتكاز أساسي. ومن بين ما يُتوقّع أن يُعلن عنه خلال احتفالات يوم النصر في الثامن من ديسمبر القادم، رفع نهائي وكلي للعقوبات المفروضة على سوريا، وبدء تنفيذ عدد من الاتفاقات الاستثمارية الضخمة في البنية التحتية والطاقة، إلى جانب مشاريع إصلاح هيكلي في القطاعات المالية والإدارية. وهذا كله يندرج في الإطار الذي حددته القيادة السورية بوضوح، حين أكدت أن عام 2026 سيكون عام الانطلاقة الجذرية لعملية التنمية الاقتصادية والسياسية.
غير أن هذا التحول الخارجي، رغم زخمه التاريخي، يضع على عاتق الدولة السورية تحديات داخلية من نوع جديد. ويتمثل التحدي الأول، وربما الأهم، في ضرورة تبني تفكير سياسي مبتكر خارج الأطر التقليدية، يُرسّخ مسارين شديدي الحساسية: مسار المشاركة السياسية، ومسار تعزيز الوحدة الوطنية. في المسار الأول، لن يكون مقبولاً بعد اليوم الاكتفاء باختيار النخب الإدارية والسياسية إما على أساس «الكفاءة» دون اعتبار للثقة والانتماء الوطني، أو على أساس «الثقة» وحدها دون نظر إلى الكفاءة. فقد أثبتت التجربة أن غياب أحد العنصرين يؤدي إلى كوارث إدارية وسياسية، ويُهدر فرص البناء الفعلي. المطلوب الآن، إذاً، هو إعادة صياغة منهجية اختيار الكوادر في الدولة، وفق معادلة دقيقة توازن بين الولاء الوطني والجدارة التقنية، بعيداً عن المحسوبيات من جهة، وعن العفوية من جهة أخرى.
أما في المسار الثاني، فإن اللحظة السياسية تتطلب إبداع سياسات متقدمة لترسيخ الوحدة الوطنية، لا تكون على مستوى الشعارات، وإنما عبر آليات تنفيذية تراعي حساسيات المكونات المجتمعية كافة، وتُزيل الرواسب التي خلفتها سنوات الحرب والصراع والتجييش المتبادل. وهنا، لا يمكن للدولة وحدها أن تقوم بهذه المهمة، فالمجتمع المدني مدعو إلى لعب دور مركزي فيها، لكنه سيواجه تحديات كبيرة ومزدوجة في هذا الإطار.
ففيما يخص المشاركة السياسية، سيكون من غير الواقعي أن تتوقع منظمات المجتمع المدني أن المرحلة المقبلة ستُدار وفق النموذج الديمقراطي الكلاسيكي السائد في العالم الغربي، بكل مؤسساته وآلياته. ذلك أنه لا النظام الإقليمي يرغب في هذا النموذج، ولا النظام الدولي يضعه اليوم على أجندته، كما أن البنية المجتمعية والسياسية السورية لم تُستكمل بعد لتتحمّل صدمة معادلة «الأكثرية» و«الأقلية» وما قد تفرزه من استقطابات مدمّرة. والقوى الحداثية والعلمانية والليبرالية في المجتمع المدني مدعوةٌ، قبل غيرها، إلى مراجعة عميقة في هذا السياق، لأنها إن استعجلت المطلب الديمقراطي بمعناه الكامل، قد تجد نفسها وجهاً لوجه مع واقع لا يرحم، وقد تنتهي إلى الإقصاء أو التهميش، أو على الأقل إلى خسارة قواعدها الاجتماعية! ولهذا فإن التنمية السياسية في هذه المرحلة ينبغي أن تُستثمر في إعادة تعريف الناس بالسياسة، وتوسيع قاعدة الفاعلين السياسيين، من خلال التدريب، والتثقيف، وبناء المبادرات، وتدعيم الخطاب المدني، دون استعجال الصيغ الانتخابية أو الحزبية.
أما فيما يتعلق بمسار ترسيخ الوحدة الوطنية، فإن التحدي الأكبر سيواجه المجتمع المدني في قدرته على تقديم سياسات ومبادرات تستند إلى فهم عميق للواقع السوري، دون الانزلاق إلى انتقاء مكونات بعينها لتُعطى الأولوية في العمل، تحت شعارات المظلومية أو الخصوصية الثقافية أو التمييز الإيجابي. فمثل هذه المقاربات، وإن كانت تبدو عادلة ظاهرياً، غالباً ما تتحول إلى أدوات لإعادة إنتاج الانقسام، وتفكيك المشترك الوطني، بدل ترسيخه. والمطلوب اليوم هو بناء سردية وطنية جديدة، لا تلغي أحداً ولا تقدّس أحداً، وإنما تعترف بالتنوع وتؤطره في مشروع دولةٍ واحدة، عادلة، وفاعلة.
إن لحظة الثامن من ديسمبر لن تكون مجرد ذكرى احتفال رمزي، وإنما هي إعلان بداية رسمية لمرحلة جديدة في تاريخ سوريا. وما تعيشه سوريا اليوم ليس نهاية صراع، وإنما بداية مرحلة تأسيس. مرحلة تتطلب وعياً مركباً، لا شعارات عاطفية. وتستدعي جيلاً من الفاعلين السياسيين والمدنيين يُدركون أن بناء الدول لا يكون بـ«المنشور» و«البيان»، وإنما بتراكم الخبرة، والاعتراف بالواقع، وتوسيع دوائر البدائل والخيارات.
لقد خرجت سوريا الجديدة من عنق الزجاجة، نعم. لكن التحدي الحقيقي هو أن لا تعود إليه مرة أخرى بعد كل تلك التضحيات.
كاتب سوري
- القدس العربي






















