انطلقت يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 في قصر العدل بحلب محاكمة أربعة عشر متورطاً بأحداث الساحل، في حدث تاريخي غير مسبوق في تاريخ سوريا. أهمية هذه المحاكمة لا تقتصر على كونها أول جلسة علنية ومنقولة تلفزيونياً منذ عقود، بل تمتد أيضاً إلى كونها تحاكم عناصر محسوبين على السلطة الجديدة نفسها، ما يشير إلى اعتراف رسمي بأن العناصر التي تنتمي إليها ليست فوق القانون، وأن أي أخطاء، حتى من جانب الأجهزة الرسمية، ستواجه مساءلة قضائية.
وزاد من أهمية المحاكمة حضور كبير للإعلام المحلي والعربي والدولي ومنظمات حقوق الإنسان. وبلا شك، أرادت السلطة من وراء ذلك عكس صورة من الشفافية وتعزيز ثقة المجتمع في قدرة الدولة على محاسبة مرتكبي الجرائم. غير أن هذه الصورة الإعلامية أظهرت وجود تناقض بين الشكل والمضمون القانوني؛ فالعلنية وحدها لا تعوّض عن غياب الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة، ولا عن ضعف الرقابة على التحقيقات، ولا عن الإشكالات البنيوية في النظام القانوني نفسه.
برزت الإشكالية القانونية عندما أعلن رئيس المحكمة أن الهيئة التي تنظر في القضية هي “محكمة وطنية مستقلة”، و”أنها تطبق قانون العقوبات العسكري وقانون العقوبات العام وقانون أصول المحاكمات الجزائية”. فالقانون العسكري يكتفي بمرحلتي التحقيق والمحاكمة أمام محكمة الجنايات، مع إمكانية الطعن أمام محكمة النقض، بينما يفرض قانون أصول المحاكمات الجزائية تسلسلاً كاملاً بدءاً من قاضي التحقيق، ثم قاضي الإحالة، ثم محكمة الجنايات، ثم محكمة النقض، لضمان الرقابة على القرارات وتحقيق العدالة قبل وصول القضية إلى المحكمة. والسؤال هنا، إذا كان رئيس المحكمة قد اعتمد القانون العسكري، فما الداعي لأن يذكر أن المحكمة تطبق قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 112 لعام 1950، وهو قانون جزائي مدني؟ هذا التضارب بين القوانين يضعف مصداقية المحاكمة ويكشف عن خلل بنيوي في النظام القضائي السوري.
انتظر السوريون لسنوات طويلة محاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام الأسد منذ عام 2011، بما في ذلك جرائم الإبادة الجماعية والقتل الجماعي والتعذيب المنهجي. ومع ذلك، تبدأ العدالة خطواتها بمحاكمة جرائم الساحل فقط، وهو ما يطرح سؤالاً أساسياً: هل بداية هذه المحاكمة كافية لاعتبارها خطوة نحو العدالة الانتقالية، كما وصفتها وزارة العدل في منشور لها بأن هذه المحاكمات تأتي: “في إطار تحقيق العدالة الانتقالية وتطبيق القانون، بما يرسخ مبادئ تطبيق العدالة والمحاسبة في الدولة”؟
هذا التوصيف مضلل، لأن المحاكمة تُعقد أمام محكمة الجنايات العسكرية العادية في حلب، وتستند إلى القانون العسكري والعقوبات العامة وقانون أصول المحاكمات الجزائية، في غياب أي إطار تشريعي خاص بالعدالة الانتقالية، ما يجعلها غير كافية لمواجهة الجرائم الدولية الكبرى مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
وكان من المفترض أن تلقى هذه المحاكمة ترحيباً من الناس، خصوصاً من قبل ذوي الضحايا، إلا أن العكس حدث، حيث بدا التذمر وعدم الرضى واضحين، متسائلين عن سبب بدء القضاء بمحاكمة جرائم الساحل فقط، وليس بمحاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام الأسد. وهذا التساؤل مبرر ومفهوم، لا سيما إذا علمنا حجم الجرائم المهولة التي ارتكبها نظام الأسد السابق.
يمكن الرد على هذا التساؤل بتوضيح أن جرائم نظام الأسد تُصنف كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وهي جرائم غير منصوص عليها في القوانين السورية، أي غير معاقب عليها تطبيقا للقاعدة القانونية المعروفة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني”، ما يجعلها خارج نطاق القضاء الجزائي التقليدي.
ولمواجهة هذه الجرائم، يحتاج الأمر وجود مجلس تشريعي يسن قوانين تُدرِج تلك الجرائم في التشريعات السورية، وتأهيل قضاة قادرين على التعامل مع هذه النوعية من القضايا، وإنشاء محاكم خاصة بالعدالة الانتقالية قادرة على الفصل في الجرائم الدولية الخطيرة والمعقدة، وتوحيد المرجعية القانونية بين القوانين العسكرية والمدنية لمنع التضارب وضمان المساواة أمام القضاء، وتجريم خطاب الكراهية والتحريض والطائفية ليكون رادعاً ضد التمييز والتنمر، وتوفير بيئة قضائية مستقلة تحمي الضحايا والشهود وتضمن علنية وشفافية المحاكمات.
هذه الخطوات ليست مجرد متطلبات شكلية، بل هي شروط ضرورية لإضفاء الشرعية على أي مسار قضائي، وضمان أن العدالة الانتقالية تتحول من شعارات إلى واقع ملموس. من دون هذه الإصلاحات، ستبقى أي محاكمة قائمة على القانون السوري الحالي ناقصة وغير كافية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة والكبرى.
تحمل هذه المحاكمة بعداً سياسياً واجتماعياً في آن واحد، فهي من الناحية السياسية، تشكل رسالة للداخل والخارج بأن أي طرف، حتى العناصر الموالية للسلطة الحالية، ليس فوق القانون. لكنها في الوقت نفسه تضع المجتمع أمام حقيقة أن البداية لا تعني النهاية، وأن هذه الخطوة لا تكفي لتأسيس عدالة انتقالية حقيقية.
ومن الناحية الاجتماعية، تحمل المحاكمة أهمية للضحايا والمجتمع ككل، فهي محاولة لإعادة الاعتبار للضحايا ورفع الغبن عنهم والاعتراف بمعاناتهم، وهو أمر أساسي في أي عملية مصالحة وطنية. لكنها أيضاً تضع المجتمع أمام حقيقة أن العدالة، إذا لم تُدعم بإصلاحات تشريعية وسياسية شاملة، ستبقى ناقصة وربما مجرد واجهة شكلية.
باختصار تمثل هذه المحاكمة اختباراً حقيقياً لقيام الدولة الوطنية السورية. أمام سوريا فرصة نادرة لكتابة صفحة جديدة في تاريخها، صفحة تقوم على العدالة والكرامة والمساءلة، لا على الإفلات من العقاب. النجاح في هذا الاختبار يتطلب إرادة سياسية وقضائية حقيقية، قادرة على ترجمة المبادئ النظرية إلى واقع ملموس، وضمان أن العدالة الانتقالية تصبح أداة فعلية للمصالحة والمساءلة، لا مجرد عرض إعلامي.
- المدن





















