كان لافتاً ذاك النفي السريع الصادر عن هيئة البث العبرية، والذي أفاد بعدم علاقة تل أبيب بالانفجار الذي وقع في منطقة “المزة 86” بدمشق، مساء الجمعة. وهو يؤشر إلى حرص إسرائيلي على عدم الإيحاء بالتصعيد العسكري، تجنباً لإزعاج واشنطن تحديداً. ويمكن أن نلحظ أن التجاوزات والاعتداءات الإسرائيلية انحصرت في حدود محافظتَي درعا والقنيطرة في الجنوب، منذ أكثر من شهر، بالتزامن مع تسارع وتيرة “الاحتضان” الأميركي لسلطة الرئيس أحمد الشرع.
تزامن ذلك مع “تصعيد” خطابي – سياسي، عبر تصريحات لمسؤولين إسرائيليين، حاولوا خفض القيمة الفعلية لتلك “الشرعية” والقبول الإقليمي والدولي المتصاعد، الذي حصدته القيادة السورية، في الشهرين الأخيرين. من ذلك، تصريحات عضو الكنيست الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، والتي قال فيها، إن “الوضع في لبنان وسوريا يعكس حالة تعاظمٍ عسكريٍّ لحزب الله في لبنان، ولتنظيم القاعدة في سوريا”، محذّراً من “خطورة استمرار الوضع الحالي”. مضيفاً: “في سوريا لا يوجد نظام الأسد، بل نظام القاعدة، ولا يوجد إيرانيّون، بل أتراك”.
المطلب الإسرائيلي أن تشمل المنطقة “العازلة”، كامل الجنوب السوري، بما فيه محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة، وصولاً إلى جنوب العاصمة دمشق.
ذاك التشكيك الغامز من قناة الخلفية “الجهادية” للسلطة الراهنة في سوريا، تشابك مع لائحة ضمت ثلاثة شروط، مررها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بوصفها الأساس لبناء “ثقة” إسرائيلية، بالسلطة السورية الجديدة. مقللاً بذلك من قيمة “الثقة” الأميركية الممنوحة، بدرجة كبيرة، للشرع، والتي عبّر عنها لقاء الرئيس السوري بنظيره الأميركي دونالد ترامب، في البيت الأبيض، مؤخراً.
وفي مقابلة صحفية، عرض نتنياهو لائحته بالأفعال المطلوبة من الشرع. وهي: القضاء على الجهاديين في الجيش السوري. التعاون مع إسرائيل لتحقيق منطقة منزوعة السلاح في جنوب غربي سوريا المتاخمة لمرتفعات الجولان. والوصول إلى ترتيبات توفّر حماية دائمة للأقلية “الدرزية”، وفق وصفه.
ويمكن أن نعتبر تلك البنود الثلاثة، خطوطاً عريضة للمفاوضات المتعثرة بين دمشق وتل أبيب، حتى الآن. وفي القلب منها، “المنطقة منزوعة السلاح”، والتي يصرّ عليها الإسرائيليون كشرطٍ للانسحاب من المناطق التي توسعوا فيها داخل الأراضي السورية، بعد سقوط نظام الأسد.
وتأتي تصريحات نتنياهو هذه، رداً على رفض الشرع لمبدأ “المنطقة العازلة” في الجنوب السوري، في حديثه لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، قبل أيام. واستند الرئيس السوري على ركيزتين لهذا الرفض. الأولى أمنيّة، تتعلّق بالتساؤل عمن سيضبط هذه المنطقة التي ستتحول إلى خاصرة رخوة أمنياً، يمكن استغلالها لشن هجمات
ضد “إسرائيل” نفسها؟! في حين كانت الركيزة الثانية، حق “السيادة” السورية على تلك الأراضي، مع التصويب على المطامع التوسعية لإسرائيل.
وكما هو معلوم، فالمطلب الإسرائيلي أن تشمل المنطقة “العازلة”، كامل الجنوب السوري، بما فيه محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة، وصولاً إلى جنوبي العاصمة دمشق. وهو ما يجهض مشروعاً تركياً –بالأساس-، لخلق ممر لوجستي برّي، يتمتع بجدوى اقتصادية مرتفعة للغاية، متمثلاً بالطريق الدولي “M5” الذي يعبر المدن السورية الرئيسية، من شمال البلاد إلى جنوبها، ويربطها بتركيا من الشمال، وبالأردن من الجنوب، ليشكّل ممراً مربحاً لتجارة الترانزيت بين أوروبا وتركيا والخليج، بسرعة أكبر وكلفة أقل. وهو المشروع الذي يحظى بدعم خليجي –سعودي بصورة خاصة-. وهو ما أشار إليه تحليل بعنوان “الصراع الجديد على سورية”، نشره مركز كارنيغي، قبل أيام. وتحدث التحليل عن مشروعين، الأول تركي – خليجي، لإعمار سوريا واستغلال موقعها الجيوستراتيجي، والثاني إسرائيلي، لتقسيم سوريا، وإجهاض أي مشاريع إقليمية فيها.
وقد نجح الدعم الدبلوماسي والمستند إلى “القوة الناعمة” لكلٍ من تركيا ودول الخليج البارزة –خاصة السعودية-، في جذب إدارة ترامب نحو مشروع هذه الدول في سوريا. كذلك أتاح نجاح الإدارة السورية في احتواء وتخفيض أي تصعيد داخلي، بعد أحداث السويداء بمنتصف تموز الفائت، في خلق زخم للدعم الخارجي، انعكس في اختراقات نوعية على صعيد العلاقة مع قوى دولية، في مقدمتها، الولايات المتحدة. والتي باتت هي الأخرى، ممثلةً في الإدارة الأميركية، تراهن على إدارة الشرع. الأمر الذي قلّص هوامش المناورة لدى تل أبيب. وأصبحت الأخيرة تخشى من أن تتعرض لضغط أميركي جدّي، للقبول بتسوية مع دمشق، عبر اتفاق أمني شبيه باتفاق “فك الاشتباك” عام 1974.
إن القيادة السورية خطت خطوات متقدمة، بدعم خليجي – تركي، في تقليص هوامش المناورة الإسرائيلية، وتحقيق اختراقات على صعيد كسب “ثقة” الإدارة الأميركية. ومن الجلي أن السياسة الراهنة تحقق الأهداف المطلوبة، مما يعني أنه يجب المحافظة عليها، وتجنب التورط في أية “أفخاخ” أخرى من قبيل ما حدث في السويداء، قبل بضعة أشهر.
ومع انضمام سوريا للتحالف الدولي ضد “الإرهاب”، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ومؤشرات التعاون الأمني، الجلية، على الأرض، تقلصت هوامش المناورة الإسرائيلية أكثر. وانحصرت، في الوقت الراهن، بالتذرع بعدم الثقة بالماضي “الجهادي” للسلطة الحالية، وبأمن “الأقلية الدرزية”.
ويمكن القول، إن القيادة السورية خطت خطوات متقدمة، بدعم خليجي – تركي، في تقليص هوامش المناورة الإسرائيلية، وتحقيق اختراقات على صعيد كسب “ثقة” الإدارة الأميركية. ومن الجلي أن السياسة الراهنة تحقق الأهداف المطلوبة، مما يعني أنه يجب المحافظة عليها، وتجنب التورط في أية “فخاخ” أخرى من قبيل ما حدث في السويداء، قبل بضعة أشهر.
وفي نهاية المطاف، فإن الصراع بين المشروع التركي – الخليجي في سوريا، والذي يتقاطع مع مصالح غالبية السوريين، وبين المشروع الإسرائيلي الذي يراهن على “سوريا مقسمة وضعيفة”، يتوقف حسمه في كثير من
الجوانب، على سياسة القيادة السورية تجاه الداخل. عبر إعمال السياسة في التعامل مع المشكلات الداخلية، بدلاً من الأمن والقوة المسلحة. وسيتطلب الأمر وقتاً والمزيد من المثابرة، لمواصلة الاختراقات وصولاً إلى مرحلة يصبح فيها هامش المناورة الإسرائيلية أضيق من أن يستطيع النفاذ من رغبة ترامب في الرهان على مشروع حلفائه الخليجيين والأتراك في سوريا.
- تلفزيون سوريا
























