
لا يقلل ما يبدو احتضاناً إقليمياً ودولياً، قوامه مصالح وحسابات ليست بالضرورة متفقة مع مصالح السوريين وحساباتهم، من التحدّيات التي لا تفتأ تتعاظم أمام إدارة دمشق الجديدة، لأسباب عديدة. يرتبط بعضها ببنية النظام الإقليمي، والدولي، وعلاقات القوة والتنافس التي تحكمه، ويتعذّر التأثير فيها. وبعضها الآخر متصل بقراءات، مقاربات، وسياسات غير محسوبة بدقة، ربما بفعل الثقة المفرطة التي أفرزها النصر “السهل” والسريع الذي تحقق ضد نظام الأسد، والارتياح الذي خلفه، ونحن على أعتاب الذكرى السنوية الأولى لسقوطه. من ذلك، مثلا، التحدّي الإسرائيلي الذي جرى التعاطي معه، أول الأمر، بشيء من “الخفة”، اعتقاداً أن المبالغة في تجاهل انتهاكاته، أو في إثبات حسن النيات تجاهه، سوف يقيان شره. كانت التقديرات أن إسرائيل لا بد أن تكون “ممتنّة” لطرد إيران، وقطع طريق إمداد حزب الله، وهو هدفٌ رئيس لها في سورية. لم تكن حكومة نتنياهو كذلك، بل وجدت في الوضع الناشئ فرصة لإعادة تشكيل المشهد السوري بما يتوافق مع رؤيتها إلى الإقليم بعد “حروب الطوفان”. يبدو أيضا أنه جرت المبالغة في توظيف الخوف من عودة الفوضى إلى سورية، أو انبعاث تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيها، على أمل أن يدفع هذا أصحاب المصلحة، في الإقليم والعالم، إلى ضبط السلوك الإسرائيلي في سورية، وكبحه عن تقويض استقرارها. هذا لم يتحقق أيضاً، ولا فعل ذلك (أقله حتى الآن) انضمام سورية رسميّاً إلى “التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب”، ومشاركتها المباشرة على الأرض مع القوات الأميركية في عمليات عسكرية ضد “داعش”.
بعد عام على سقوط الأسد، واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية، وتعاظمها، في العمق والحجم والكلفة (جديدها أخيراً في بيت جن)، صار واضحاً أن دمشق ربما كانت مندفعة أكثر من اللازم في مسارها التفاوضي مع إسرائيل عندما وافقت سريعاً على مفاوضات مباشرة، وعلى مستوى سياسي (الإشارة هنا إلى اجتماعات أسعد الشيباني المتكرّرة مع رون ديرمر في باريس ولندن، وغيرهما ربما). كما كان في غير محلّه التفاؤل بقرب التوصل إلى اتفاق “أمني” معها، والذي جرى التعبير عنه في أكثر من مناسبة، آخرها تصريحات الرئيس أحمد الشرع عشية زيارته واشنطن وفي أثنائها. حقيقة الأمر أن حكومة نتنياهو لم تكن مهتمة أبداً بأي اتفاق يعيدها إلى ترتيبات فض الاشتباك لعام 1974، بل باستغلال وضع سورية الضعيف لفرض “السلام من خلال القوة”، تمثلاً بشعار إدارة ترامب، تنتزع بموجبه اتفاقاً تتنازل بموجبه دمشق عن أراضيها المحتلة عام 1967 في مقابل العودة إلى حدود 8 ديسمبر/ كانون الأول (2024).
ما تحتاجه سورية حقّاً في هذه المرحلة إعادة تقييم شامل لمقاربتها تجاه التحدي الإسرائيلي، بما في ذلك إعطاءه حقه من الاهتمام والجدية، والتعامل معه تهديداً وجودياً للدولة السورية. هذا يتطلب وضع استراتيجية مواجهة شاملة تفتقدها دمشق حالياً، يتضمّن بندها الأول تكوين فهم حقيقي للعقلية الإسرائيلية وآليات تفكيرها حتى يُصار إلى تحديد أهدافها بدقة، وتوقع حركاتها حتى يغدو ممكناً التعامل معها (واضح أن الإدارة السورية لا تملك أدنى فكرة عن ذلك). وهذا يتطلب إنشاء فريق متخصّص بدراسة إسرائيل وفهمها من الخبراء العسكريين والمدنيين، وسورية لا تعاني ندرة فيهم. ثانياً، الكفّ عن تكرار أطروحة أن سورية ضعيفة ولا تملك القدرة على المواجهة، لأن إسرائيل تطرب لسماعها، في حين أن مقاومة محدودة، كالتي حصلت في بيت جن يوم الجمعة الماضي، كانت كفيلةً بتغيير حساباتها. هذا لا يعني أن تورّط الإدارة السورية نفسها في مواجهة عسكرية غير محسوبة، بل عبر بناء أوراق ضغط حقيقية على الأرض، بالتنسيق مع الأهالي من أبناء المنطقة، تعينهم فيها على الصمود، ويعينونها هم على طاولة المفاوضات، وبما يبيّن، من دون لبس، أن سورية يمكن أن تدافع عن نفسها، ولو بأثمان عالية، إذا فرضت الحرب عليها.
موازين القوى عامل حاسم في أي معركة، لكن الإيمان بالقضية التي تقاتل من أجلها لا يقل أهمية، وهيئة تحرير الشام ينبغي أن تعطي العالم دروساً في هذا، فهي التي ظلّت، حتى النهاية، تؤمن، كما تخبرنا، بما كنا نراه جميعاً، منطقيّاً، مستحيل (إسقاط الأسد ودخول دمشق). أخيراً، وليس أقل أهمية، ينبغي العمل على إعادة بناء الوحدة الوطنية باعتبارها الطريق الأمثل لهزيمة المشروع الإسرائيلي في سورية، وجوهره تقسيمها إلى كانتونات طائفية ضعيفة معتمدة في بقائها على إسرائيل. بهذا فقط نتجاوز حسابات المرحلة الماضية الخاطئة، ونصبح في وضع أفضل للتعامل مع التحدّي الإسرائيلي، الذي يبدو أنه لن يزول قريباً.
- العربي الجديد


























