«الشعب يحبني وأنا أحبه»..
هكذا قال الرئيس في بداية خطابه. والدليل أنه في نفس لحظة الخطاب كانت الدبابات تقيم ستارا حديديا على حدود بلده مع تركيا لمنع مزيد من الآلاف من المحبين من الفرار من وطنهم إلى تركيا.
أما السبب ــ كما اطلعنا في درس طبى بليغ ــ فهو الجراثيم. فقد أفهم من لا يفهم، أن القضاء على الجراثيم (ويحق لك أن تقرأها هنا الشعب المتمرد) مستحيل، والعلاج الوحيد الممكن هو وقف انتشار هذه الجراثيم.
ومن هنا يصبح قصف المدن والقرى السورية بالدبابات والمدفعية والطائرات مجرد عملية تطهير للجراثيم لا أكثر.
نحن إذن أمام خطاب يسخر من الشعب ومن الحقيقة بالأقوال والأفعال، ولولا أن ثمن هذه السخرية هو دماء وأرواح السوريين الشجعان لكانت نوعا من الكوميديا السوداء التي تستدعى الدموع لا الضحكات.
وبغض النظر عن هذه الفتوح البلاغية المقيتة، لم يأت الخطاب بأي جديد يشفى غليل الشعب المتعطش إلى حل أو إلى رحيل. فقد كرر إلى حد الملل الأكاذيب التي ظل الجهاز الإعلامي الدعائي يضخها على مدار شهور. فهي الأسطوانة نفسها: عناصر متسللة ومندسة وعصابات مسلحة تهاجم رجال الأمن الأبرياء وتفتك بالشعب تنفيذا لمؤامرة غربية.
قد نفهم حكاية الهجوم على رجال الأمن وإن لم نصدقها، ولكن لماذا تفتك هذه العصابات بالشعب في درعا وبانياس وجسر الشغور وغيرها؟ أليس من المفروض أن هذه «العصابات» تريد أن تكسب الشعب لصفها ضد السلطة؟ أي أنها تمارس الشر لمجرد الشر، ولماذا اتهم أهالي درعا بالصوت العالي الجيش والأمن السوريين بمهاجمة المنازل والمساجد وقتل الناس دون أن يأتوا على ذكر (مجازر) هذه العصابات التي لم يسمع بها أحد إلا في الإعلام السوري الرسمي؟ ولماذا ظلت السلطات ترفض حتى الآن دخول الإعلام الدولي إلى مناطق النزاع في درعا وغيرها لتصوير الواقع أو حتى كتابة تقارير مستقلة عما يدور في المدن والقرى المنكوبة؟ ما الذي تخشاه هذه السلطات من كشف الحقيقة؟
يخرج مواطنون سوريون في مظاهرات ليلية على أمل أن يسترهم الظلام. ويصور بعض المتطوعين الهواة المندسين زملاءهم المتظاهرين ليصل صوتهم إلى العالم. شاهدت واحدة من هذه المظاهرات الليلية، وأوجع قلبي هتاف المتظاهرين المرير المدوي «كاذب.. كاذب.. إعلام سوري كاذب».
وكيف لا يكون كاذبا وأنت ترى في عز القتل والسحل والضرب أشرطة لمظاهرات بهيجة ملونة يقودها البعثيون المطمئنون في كنف الأمن هاتفين «الله وسوريا وبشار وبس» وهو هتاف مستعار من نظام شقيق لهم غربا يمارس بدوره تطهير الوطن من الشعب الجراثيم. وقد تسأل نفسك: من أين يتوافر لهؤلاء المتظاهرين المؤيدين آلاف من الصور الموحدة الشكل والحجم أيضا للزعيم القائد يرفعونها أثناء هتافاتهم المتشنجة؟ إن لم تكن أجهزة (القائد) هي التي وزعتها عليهم، فإن اتفاقهم التلقائي على رفع الصور نفسها هو معجزة حقيقية. غير أن تنظيم هذه المظاهرات الرسمية الحاشدة لا يعنى شيئا على الإطلاق لحسن الحظ.
فكل إنسان على سطح الأرض شاهد أو عايش مظاهرات مماثلة تحشدها الأنظمة المستبدة بالترغيب والترهيب لمن لا حيلة لهم من الموظفين والعمال وغيرهم. وأذكر أن أضخم مظاهرة رأيتها من هذا النوع كانت لتأييد شاوشيسكو طاغية رومانيا، وسبقت سقوطه بأربع وعشرين ساعة بالضبط!
غير أن الخطاب يقترح حلولا أيضا.
فهناك لجنة كبيرة ستشكل للحوار وستنبثق منها توصيات ترفعها إلى (القائد)، فتتحقق كل الحريات، وتجاب كل المطالب في أقرب فرصة بإذن الله.
لكن الشعب السوري خرج في مظاهرة فورية عقب الخطاب في مدن وأقاليم مختلفة يعلن رفضه للجان الموعودة وعدم ثقته بالوعود المؤجلة. كان ما يطلبه بسيطا ويسهل تحقيقه مباشرة دون أي تأجيل: سحب قوات الجيش وقوى الأمن العلني والسري من المدن والقرى، وحرية التظاهر السلمي، وإقامة ديمقراطية حقيقية وتعددية حزبية بعيدة عن هيمنة حزب البعث وربما بعيدة عن وجوده أصلا.
خطوات ملموسة، وتطبيق فعلى لا مجرد وعود وقرارات شكلية. فقد صدر مثلا قرار بإلغاء حالة الطوارئ في سوريا قبل أيام، لكنه ظل مجرد قرار، أما القمع المرتبط بالطوارئ من اعتداءات واعتقالات فقد ظل راسخا بعد هذا الإلغاء مثلما كان قبله.
بقيت في الخطاب حكاية المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية على سوريا باعتبارها دولة الممانعة ودعم المقاومة. وليس عندي شك في أن أمريكا وإسرائيل تتآمران بالفعل على سوريا وعلى بلدان عربية أخرى. ولكن ربط هذا التآمر بالانتفاضة الشعبية من أجل الحرية زعم شرير لا يستند إلى أي دليل، بل هي مجرد محاولة مفضوحة لتلويث ثوب هذه الانتفاضة السلمية النقي.
تكشف الشعوب الحقائق من الأكاذيب. فعندما بلغ التآمر الإسرائيلي الغربي ضد سوريا ذروته إبان الغزو الصهيوني للبنان وقف العرب جميعا إلى جانب سوريا، وكتبت مقالا في حينها كان عنوانه «كلنا سوريا» وكان دالا على مضمونه. غير أنني لم أنس أن أختمه بالتذكير بأن إطلاق الحريات في سوريا هو أفضل تحصين لها يضمن إفشال كل المؤامرات . ومازال هذا صحيحا اليوم مثلما كان بالأمس.
ولو أن السلطة في سوريا تبادر إلى كف يد البطش والتنكيل وإلى تنفيذ مطالب الشعب المشروعة فقد يغفر لها إساءاتها وجرائمها في حقه.
وأقول قد!




















