كان كتاب بركات “الأبواب كلها” (ترديد الصدى في التلاعب بأخلاق الليل)، الصادر سنة 2017، قصيدة طويلة بدورها (265 صفحة) تفيض بهجاء للبشرية كلها. وكتابه الجديد “تنديدٌ روحانيٌّ” هو استكمال ربما لذلك الهجاء، في فقرات مكثفة متلاحقة كأن كل فقرة معركة على جبهة من جبهات عصرنا المنكسر.
بلغ بركات السبعين من عمره في أيلول الفائت 2021. فهل هذه القصيدة هي خلاصة في وصف نكبة جيله؟ إنها طافحة بأحاسيس الإخفاقات العنيفة القاسية، والغضب من انسداد الأفق والصراخ في الاتجاهات كلها حتى الاختناق.
القصيدة الطويلة هذه هي الخيبة الأخيرة من الحياة كما ينبغي الاعتراف بها. هي هجاء حزين جداًّ من شدة التمزق كشاهد على أن أي تغيير في حياة جيل الشاعر بات حلماً من أحلام اليقظة.
يلجأ بركات في تشكيل قصيدته إلى أسلوبٍ شكَّل مساراً له في تقطيع الجملة الواحدة أحياناً كمسبحة انقطع خيطها، فتتبعثر الكلمات عن قصد واضح، في تشكيل بصري تستطيع القراءة إعادة ربطها من جديد كجملة واضحة التركيب. كما اعتمد الشاعر على تقنية التكرار التصعيدي بحيث نحصل على مفاجأة بعد دورة من بعض الجمل على نفسها مثل مروحة.
عنوان الكتاب “تنديد روحاني” هو تلخيص مضمونه الواسع. فعلى مدى صفحات كثيرة متتابعة من نهاية القصيدة الطويلة هناك تنديد كل شيء بكل شيء في الوجود؛ بحيث تغدو المعاني غير راضية عن أي تعريف سابق: الكتاب قصيدة تقود الجنون إلى الجنون من نفسه… ومن أجوائها هذه الفقرات:
1 ـ
فقْرٌ بمناظِرَ خلاَّبةٍ،
وجراحٌ كأغاني الأعراسِ،
وانهيارٌ في طقْسٍ منعشٍ اعتدالاً،
وهزائمُ على ضفافِ الأنهُرِ العذبةِ المياهِ،
المزدهيةِ بزهرٍ نابتٍ في غيرِ موعدِ الزَّهرِ مع اللون.
قتلٌ عن طيْبِ خاطرٍ بعد الوجبةِ الدَّسمةِ. أمهِلونا،
أيها
العارفون:
صعبٌ يبدأُ صعْباً،
وصِعابٌ تبدأ كالمصافحاتِ تهانيَ بالحصولِ على مزرعةٍ.
أمهِلونا،
أيها الموشكونَ على عتابٍ بعد سلْخِ الجلود:
لَسْنا بعْدُ في الأقلِّ،
أو في الأكثرِ؛
لسنا في الذي بينهما،
وخياراتُنا قِلَّةٌ، أكثرُها الجهاتُ الأربعُ هَرَباً من واحدةٍ فيها، أوْ لا هَرَبَ.
تباًّ
للهربِ:
أزَلْنا الشَّعْرَ عن إبطيِّ الموتِ بالنُّوْرَةِ،
وخَفَقْنا
الحياةَ
خفْقَ
بَيْضٍ للعُجَّة.
2 ـ
كلُّ أحدٍ مَديْنٌ للآخر بقتلٍ واحدٍ؛
بهدمِ جدرانٍ،
وإبقاءِ سقوفٍ على أعمدةِ الزفير؛
ببكاءٍ سلعةٍ للمقايضات؛
بغدٍ ليس سوى غدٍ؛
بمستحيلٍ سعادةٍ لا يعكِّرها إلاَّ مستحيلٌ؛
بمأزقٍ خلاصٍ؛
بحُبٍّ يكفي حياةً واحدةً،
أو يفيضُ
أحياناً
عن حياتين.
كلُّ أحدٍ مَدِيْنٌ للآخرِ بثيابٍ رياضيةٍ؛
بنزهةٍ إلى جوارِ البحيرةِ على بُعْدِ صوتينِ من أصواتِ الصخرة المتشقِّقةِ؛
بأرقامٍ دِينيَّةٍ؛
ببعضٍ من ثقلِ الظلِّ الذي كسر ظهرَ الرماديِّ؛
بشيءٍ مَّا لا يُحتوى؛
باستحمامٍ على غناءِ الطُّهاةِ،
وغناءِ الفرَّانيْنَ أمام النار.
كلٌّ مديْنٌ للآخر بكمامةٍ للتجوال في الجحيم،
وبقُفازٍ لتقليب الصفحاتِ الملوَّثةِ من كُتبِ الفراديسِ؛
بتعذيبٍ لا يُلْحَق بدويِّ القلوبِ فيهِ،
أو بصريرِ اللحمِ منزلقاً عن العظام؛
بالسماءِ تؤكلُ في صحنٍ حجريٍّ؛
بالهدْرِ الهِبةِ،
وبالهدْرِ الدمِ،
وبالهدْرِ الوقتِ،
وبالهدْرِ البقاءِ مندلقاً على سطورِ النار.
كلٌّ مدينٌ الآخرِ ـ حقداً عليه ـ بمضغِ أسنانٍ سقطت من فمِ النكبةِ في صحنِ حسائه؛
بخطأٍ يُعارُ مستولَداً من خطأٍ. ما الخطأُ؟ تباًّ.
تباًّ.
تباًّ.
أين الخطأُ إن احتفظ الواحدُ للآخرِ، في جيبه، بأسنانِ المقتولين؟
3 ـ
وللقلوب المآخذِ على جاذبيةِ التدوينِ الريحانيِّ،
وللقلوبِ المحارقِ الجدلية،
وللقلوبِ الصَّبواتِ السهامِ،
وللقلوبِ الأورامِ الكوكبية،
وللقلوبِ الزواحفِ إلى جوار السماءِ الأفعى،
وللقلوبِ الرَّسْمِ بلا إتقانٍ. يا لها قلوباً
متعاضِدةً
رَصاًّ
كالإسفلتِ.
ما نفعُها إنْ نبضتْ، أو خمدت؟
قلوبٌ خَواءٌ كلُّها في التجاويفِ الخَواءِ. لقد
أُلْزِمْنا
بالوقوفِ
على أحِفَّتها،
لا فيها.
هاتوْها كياسةَ الرعويِّ المستلْطِفِ إطراءَ المراعي لأحوالها.
بلْ دَعُوْنا من هذا:
الشؤونُ الكبارُ كبارٌ عادةً ـ عناقٌ تحت جسرٍ ضيِّقٍ،
أو تهاويلُ سرديَّاتٍ مُزْمِنةٍ هُنَّ حُجُبٌ ببخارهنَّ في النصوصِ السمادِ،
أو اكتفاءٌ بالأسلابِ بشَراً مقطَّعيْنَ،
أو هروبٌ من الفروعِ إلى الأصلِ هارباً إلى الفروع. تباًّ.
تباًّ للأصولِ الجرائمِ
كالشُّرفاتِ الجرائمِ في البناء.
تباًّ للشُّرفاتِ،
وللرغباتِ تُشبعُها النوافذُ محطَّمةً.
4 ـ
ليس
هاتفاً.
كيف نجا الإنسانُ من صوته بلا هاتفٍ؛
بلا تاريخٍ للهاتفِ؟
كيف نجا رنيناً من هاتفِ الوجودِ لا يردُّ عليه شقيقُه العدم؟
لن يجدنا أحدٌ.
لن نبحث عن أحد.
من الأعالي، اللواتي استخرجْنَ اللونَ حَفْراً، يُرى كلُّ شيءٍ تجريداً حلواً،
ونُرى نحن تجريداً مُراًّ.
لكنَّ الألمَ الذي يرمِّمنا، كلَّما تقوَّضْنا، جذَّابٌ،
ساحرٌ،
قديرٌ،
مُنْجِدٌ،
مُبَرِّئٌ،
ومنقذ.
5 ـ
تهيَّأْنا لسَحْبِ الأرصفةِ من تحت الأقدامِ،
وسَحْبِ الثوابِ والعقابِ من تحت الأقدامِ،
وسحبِ المعاني من تحت الأقدامِ،
وسَحْب الحاضرِ من تحت الأقدامِ،
وسحبِ الآتي من تحت الأقدامِ،
وسحبِ الشروقِ والغروبِ من تحت الأقدامِ،
وسحبِ الوراءِ والأمامِ من تحت الأقدام،
وسحبِ الإنسانِ، أخيراً، من تحت قدميهِ.
تباًّ: أولاءِ نحن
بأقدامٍ
تحت
الأقدام.
6 ـ
أُحِطْنا عِلْماً بالسِّحرِ الذي في الخطوةِ الثالثةِ خروجاً من المكانِ التائهِ إلى المكانِ الأكثر تيهاً،
وبالسحرِالذي في طلقةِ القنَّاصِ الصائبةِ،
وبالسِّحرِ
الذي
ليس
كتاباً،
7 ـ
لم توجَدوا لتختفوا،
لكنكم تختفون.
تعرفونَ ما الذي نتحدثُ عنه:
أومِئوا بالأيدي أنكم تعرفون.
أومِئوا بالرؤوسِ إبلاغاً أنكم تعرفون.
أومئوا بالعيونِ غمْضاً، إبلاغاً أنكم تعرفون.
انتحِروا إبلاغاً أنكم تعرفون.
تعرفون الذي نتحدثُ عنه:
اخْلَعوا أبوابَكم جواباً.
مرِّغوا الأقسى في الأقسى جواباً.
كسِّروا زجاجَ النوافذِ جواباً.
اسلخوا جلودَكم جواباً.
أحرِقوا جباهكم على صفيحِ المدافئِ جواباً.
أحضِروا سطولَكم الفوارغَ مِنْ جَنَى كلِّ اعتقادٍ جواباً.
تقاذفوا بالمكانسِ الرمالِ جواباً.
ألْقُوا بمفاتيحِ المُشْكِلِ إلى أحفادِهِ المُشْكلاتِ جواباً.
تخاذلوا عن جَمْعِ ما يتساقطُ منكم أجساداً في فراغِ أجسادٍ جواباً.
اكتموا أنفاسَكم حتى
اختناقِ
الأرضِ
تحتَ
الأقدام.
نتحدَّث عمَّا سَبقَكم سابقاً،
وعمَّا لَحِقَ بكم لاحقاً.
تباًّ
لكم:
حدِّثونا عَنَّا؛
عمَّا سبَقَنا سابقاً،
وعمَّا
لَحِقَ
بنا
لاحِقاً.