لن أحمّل برنارد لويس وحده مسؤولية رسم صورة سيئة للعرب والمسلمين في المخيلة الغربية، فقد سبقه كثير ممن وُلدوا كارهين للعرب والمسلمين، لكن تأثيره كان الأكبر والأخطر نظراً لغزارة مؤلفاته ومقالاته، وخبرته السياسية وارتقائه إلى موقع استشاري رفيع الشأن في البيت الأبيض واقترابه الشديد من صناع القرار في الولايات المتحدة، وحصوله على تأييد ضخم من كبار شخصيات المحافظين الجُدُد الذي بلغوا أَوْج سَطْوتهم في عهد الرئيس دبليو بوش (الابن) حتى إن ديك تشيني اعتبر لويس مُوجِّهاً لصُنّاع القرار وقال: (نلتمس حكمته في هذا القرن الجديد) .
وربما كان لتأثُّر لويس ببيئته ووالديه ومدرسته الدينية دور في تأجيج كراهيته للعرب والمسلمين الذين وصفهم بأنهم فاسدون مفسدون لا يمكن تحضيرهم ، ولا بُدَّ في رأيه من استعمارهم والسيطرة عليهم، وهو في دراساته لا يكاد يرى من التاريخ العربي الإسلامي سوى الصفحات السوداء، وقد يكون ذلك سر اهتمامه بدراسة (الحشاشين) ليقدم صورة عن جذور الإرهاب في التاريخ الإسلامي، وهو يعتبر أن نكوص الشرق الأوسط يعود إلى الثقافة والدين، وهما سبب عجز العرب والمسلمين عن مواكبة الغرب.
ولأن لويس أذكى من أن يضع نفسه في دائرة الاتهام بتزييف حقيقة الإسلام، قال: إن الحشاشين ركزوا على قتل المسلمين ومثَّلوا انحرافاً عن الإسلام السائد، واعترف بأن الجريمة والابتزاز ليسا من سلوك الإسلام، وبأن الأديان السماوية الثلاثة تحمل رسائل أخلاقية للبشر، والمؤسف في سيرة مثقف كبير ومؤرِّخ شهير أنه ابتعد عن الموضوعية التي كان بوسعه أن يحافظ على حدّ أدنى منها، فسُرْعان ما وظَّف معرفته لصالح المخابرات البريطانية، مراوغاً في تقديم ما يعرف أنه ليس حقيقة موضوعية، وهذا الانحياز الواضح أوصله إلى إعلان مشروعه بتفتيت الشرق الأوسط (المسلم ) وربما كان يعاني في داخله من هذا السقوط الأخلاقي وهو يدركه، فأراد تبرئة نفسه بقوله: (إن مهمة المؤرِّخ أن يقول الحقيقة، وأن يبتعد عن الأيديولوجيا) لكنه في الواقع زيَّف الحقائق، وغرق في الأيديولوجيا الدينية التي تربَّى في مدارسها، ولكي يتبرأ منها برر مواقفه بكونه شديد الولاء لبريطانيا العظمى التي وصفها بأنها أعظم إمبراطورية في التاريخ، وصاحبة رسالة حضارية للعالم، وقال: إن غاندي انتصر في الهند لأنه واجه إمبراطورية حضارية .
لقد تجاهل لويس ركاماً من الجرائم والفظائع التي ارتكبها الغزاةُ (ولا أقول المستعمرون) الذين يدّعون أنهم يبنون ويعمرون، بينما هم يقتلون ويستغلون ثروات الشعوب التي غزوها واحتلوها ظلماً وعدواناً، وطمسوا ثقافاتها وهُوِيَّاتها الوطنية، ولا أخص البريطانيين وحدهم، فالأمر ينسحب على كثير من القوى التي استبدت عبر التاريخ.
لكن ولاء برنارد لويس لبريطانيا العظمى لم يمنعه من التحول إلى ولاء للولايات المتحدة حين صار أمريكياً، فأما ولاؤه المطلق والحقيقي فقد كان لإسرائيل لدرجة أنه كان يرى ضرورة أن يتخلى الفلسطينيون عن أرضهم لإسرائيل، ولكونه يجيد العبرية فقد اهتم بالثقافة الإسرائيلية وترجم الكثير من الشعر العبري، وقد وجد في تيار المحافظين الجدد بيئة مناسبة لمشروعه، فبات معلماً وأستاذاً لكبار المحافظين الجدد الذين وصلوا إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة في عهد الرئيس بوش الابن، وكانوا ينتقدون الرئيس ويتهمونه بأنه لا يقدم الدعم الكافي لإسرائيل .
والمحافظون الجدد تيار فلسفي تجدد حين تتلمذ على ليو شتراوس، وكان هذا العالم الفيلسوف الأمريكي اليهودي من أصل ألماني والذي تُوفي عام 1973 يعلن كراهيته للديمقراطية الليبرالية، ويدعو للسرية في طرح الأفكار خوفاً من اضطهاد الأغلبية، ويرى أن المتفوقين فقط هم الجديرون بأن يحكموا العالم، وهو يُذكِّرنا بنظرية شعب الله المختار ، وبنظريات “نيتشه” عن الإنسان الأعلى وعن القوة، ولست في معرض الحديث المفصل عن المحافظين الجدد، وأُحيل المهتمين إلى كتاب شادية دروري المصرية الكندية (خفايا ما بعد الحداثة ودَوْر ألكسندر كوجيف فيها) وقد ترجمه الصديق الدكتور موسى الحالول، وهو كتاب يُعرِّف بدقة بتيار المحافظين الجدد .
كان شتراوس أستاذ جيلٍ تَأثَّر بنظرياته، وقد اشتهر هؤلاء التلاميذ لاحقاً حين وصلوا إلى مناصب عُلْيَا في الدولة، وكان منهم ريتشارد بيل الذي عمَّق صلة لويس بأصدقائه بول ولفتيز وإليوت برامز، وكان من أبرز المعجَبين بلويس، دونالد رامسفيلد وديك تشيني، وأما كونداليزا رايس فكانت تمدّ الرئيس بوش بمقالات وكتابات برنارد لويس .
كان مشروع برنارد لويس قائماً على تعميق خطوط الانقسام في العالم العربي والإسلامي، وكان يرى حتمية الصراع مع الراديكالية الإسلامية، وحتمية الصراع العُنْفيّ بين الشرق والغرب (وقد ذكرنا سابقاً أنه أول مَن استخدم تعبير صراع الحضارات الذي تبنَّاه صموئيل همنغتون، وكان لويس داعية لدعم المشروع الصهيوني، وقد أشرت لكونه يُبرِّئ الغرب من مسؤولية فشل النهضة العربية، وقد بلغ من الشهرة والثقة في دوائر السياسة الأمريكية إلى حد أن يستعين به كيسنجر، ويُصغي لرأيه. وكان لويس من المحرضين الأقوياء في دفع الولايات المتحدة لاحتلال أفغانستان وغزو العراق .
ولا بد من الإشارة إلى أن سياسيين كباراً ومثقفين أمريكيين ناضجين كانوا يقفون منتقدين سياسات المحافظين الجدد، وكان من المُفارَقات أن يقول آرفينج كرستول: إن المحافظ الجديد ليبرالي يسرق الواقع، واعتبر أصدقاؤه كلامَه هذا مجردَ مزحة .
وآرفينج كرستول هو عَرّاب المحافظين الجدد، ويراه الأمريكيون أهم مثقفي النصف الثاني من القرن العشرين، وهو الشيوعي اليهودي التروتسكي الذي تحوَّل فجأة إلى مناهض كبير معادٍ للشيوعية، وهو الذي أسس تيار المحافظين واعتمد مصطلح (المحافظين الجدد) بناءً على اقتراح صديقه مايكل هارينغتون عام 1973 وكان مايكل أستاذاً في جامعة “شيكاغو” التي برز فيها ليو شتراوس أستاذاً لعلم الاجتماع والفلسفة، وكان من أبرز الطلاب فيها رونالد رامسفيلد وثُلَّة من المحافظين، وكان بين الطلاب شابّ عراقي شيعي يُحضِّر للدكتوراه في الرياضيات في جامعة “شيكاغو” هو (أحمد الجلبي ) الذي مضى مع التيار، وساهَم في دفع الأمريكان لاحتلال العراق وإعدام صدام حسين، وقد اتُّهم لاحقاً بأنه دخل إلى العراق على ظهر دبابة أمريكية، لكنه نفى ذلك وقال: بل جئت سيراً على الأقدام من كردستان إلى بغداد. وللحديث صلة .
“نداء بوست”