من الكسل تولد الفكرة، فالكسل ليس «أم الآفات»، كما تردد الألسنة، بل إنه أم المشاريع الحاسمة، التي سرعان ما سوف تُجهض إذا بادرنا إليها بجهد وتعب، وتنازلنا عن حقنا في الخمول. صحيح أن هنالك أشياء لا تتأتى سوى بعمل وكدّ، ولكن الأشياء الأهم منها تأتي من لحظة ندرك فيها أن الكسل هو دينامو الوصول إلى ما نبتغي إليه. لكن الكسل ليس أمراً سهلاً، كما يفكر فيه البعض، بل هو مسؤولية، ويحتاج إلى نصيب من الصبر، ومن الحيلة قصد الإحاطة به.
ممارسة الكسل أصعب من ممارسة أي عمل كان، فهو شعور يقتضي أن ننظر إلى الحياة من زاوية لا يراها منها غيرنا. أن نتعامل معها بعيداً عن الجدية، وبكثير من السخرية، إنه شعور يتيح لصاحبه الابتعاد عن السائد، وتشكيل منظور محايد وأكثر موضوعية في التعاطي مع مشاغله، فالكسل كان سبباً في ميلاد نصوص أدبية أساسية، فالكسل هو الذي أتاح لكاتب ياسين التفكير في «نجمة» بدل أن يُرافق زملاءه العمال إلى المصنع، في صباحات باريس الباردة، والكسل أيضاً علّم رشيد ميموني كيف يكتب عن الكسالى مثله في رواية «شرف القبيلة»، ولو لم يكن جان سيناك كسولاً، لم كتب أشعاره وصار أكبر شعراء الجزائر. فالكسل هو الامتحان الأصعب الذي يُواجه الإنسان. فقد قضى البشر قروناً من حياتهم، في حركة وترحال، كي يدركوا في الأخير أن الكسل أيضاً فضيلة، وأنه عتبة من أجل دخول المعارك الفكرية الكبرى. في الصيف يصير الكسل منطقاً، ومع بداية العطل لا أحد يفكر عدا في الاسترخاء، بعيداً عن سلطة العمل، فتصير المطالعة هواية مفضلة، لمن تبقى من قراء في بلد مثل الجزائر، ومطالعة كتاب تستوجب ـ بدورها ـ كسلاً، كي تتحول من مجرد تصفح الورق إلى مغامرة روحية.
حديث القراء
لسنا نملك أرقاماً عن القراءة، في الجزائر، وهذا يرجع أيضاً إلى الكسل، من يهتم بتدوين أرقام مبيعات الكتب ونشرها؟ فالمكتبي يهمه ما يتساقط في صندوق المال من دنانير من غير الإعلان عنها، وهذا التكتم هو شكل من أشكال التقاعس، ولا أحد يلومه على تصرفه. والمكتبي نفسه لا يتنازل عن حقه في الخمول، وقد يقفل باب مكتبته، في عز الصيف، في حمى تراكض الناس خلف الكتاب، لكن هؤلاء القراء المفترضين ليسوا مثل نظرائهم في بلدان أخرى، لا يقرؤون وهم يتمددون على رمل بحر، أو في قطار أو في انتظار حافلة، بل يقرؤون في السر، بحكم أن القراءة فعل غير محبب، في الجزائر، لا يختلف عمن يبيع الحبوب المهلوسة، أو من يقايض اليورو بأورق نقدية مزورة. فالكاتب في الجزائر يصدر عمله في العلن كي يتداوله الناس، في ما بينهم، في السر. يلجؤون إلى كسلهم الخفي، من أجل مطالعة العمل. من المعتاد أن نقول إن الناس يطالعون في الصيف كتباً خفيفة، وخفة الكتاب يُقصد منها كتب تستعرض قصصا سهلة الهضم وسهلة النسيان، قصصا بنهايات حلوة، يتغلب فيها الخير على الشر، أو يتزوج فيها البطل بالبطلة، كتب نعرف خواتمها من مجرد مطالعة صفحتها الأولى، وهذا ليس عيباً. فالقارئ من حقه مطالعة ما شاء، كما من حقه أن يرفض وصاية الآخرين عليه، وأن يمزق صفحات الجرائد التي تستعرض قوائم كتب تحت مسمى: أفضل رواية أو أفضل ديوان شعر. وهي قوائم كتب انتقاها قراء محترفون، ويعتقدون أن الآخرين لا بد من أن يكونوا مثلهم، لكن الكتب الخفيفة ليست دائماً متوافرة، وغيابها يحرم القارئ من حقه في الكسل، فيصير مجبراً على قراءة كتب ثقيلة (ثقل أسلوبها أو حكاياتها) وسرعان ما يهجرها. من بين الأشياء التي تتيح للناس حقهم في ممارسة الكسل، في الصيف، هي كتب الكوميكس، وهي نوع يكاد يكون غائباً في الجزائر، وإن توافر فسيكون ـ في الغالب ـ بالفرنسية. لماذا لا نصدر كتب كوميكس بالعربية؟ لأن الناشر المحلي ـ بطبعه ـ كسول، لا يفكر في القارئ وفي حقه في الخلو إلى الخمول، بل يفكر في نشر كتب تشبهه، فقد لاحظنا منذ سنين، كتّاباً يتحولون فجأة إلى ناشرين، ينشرون كتباً ونصوصاً تروقهم، وذلك حقهم، تتطابق مع ذائقتهم، ما يحرم القارئ من حقه في التنوع، ويحرمنا الكتاب في الإجمال من قراء موسميين، يصلون كل صيف ثم يختفون، من غير أن نستفيد منهم في سوق بيع وشراء الكتب.
كتب الأسفار
في الصيف، يحبذ الناس السفر، ومن شدة كسلهم، يختلط عليهم اختيار الوجهات التي يقصدونها، فيبحثون عن كتب أو دليل أسفار تتيح لهم فكرة عن الأمكنة التي يليق زيارتها في العطلة. لكن في الجزائر لا توجد كتب أسفار، فالكاتب ـ بطبعه ـ كسول، لا يُسافر، وإن سافر فلا يكتب، وإن كتب فإنما يكتب عن مكانه الأول وليس عن المكان الذي سافر إليه، بالتالي فلا يعول القارئ على كاتب كي يوفر له فكرة عن الأسفار، وعن الأمكنة التي يصح السفر إليها. إنه يعول دائماً على الكاتب، والكاتب في خمول لا وقت له في خدمة القارئ. كما أن القارئ سيجد نفسه معرضاً لحالة أخرى من الكسل، سوف تأتي من المكتبي نفسه. في بلدان أخرى يذهب الناس إلى المكتبة ويسألون عن كتب ومضمونها، فيشرع المكتبي في تقديم ملخصات عن أي كتاب، في مدحه أو تحفيز القارئ على اقتنائه، بينما في الجزائر الحال مختلفة، بحكم أن المكتبي أيضاً متمسك بكسله، فهو لم يطالع الكتب التي يعرضها في محله، ولن يجد القارئ نفعا في سؤاله عما جاء فيه، وعليه العودة إلى النت، أو إلى أصدقاء بعينهم قصد إفادته بعناوين الكتب التي من شأنها مؤانسة خموله في الصيف. هكذا إذن تسير العجلة، من كسل لآخر، يتداوله الناس في ما بينهم، مثلما يتداولون أخبار النميمة، كل واحد يدافع عن حقه في الكسل، متكلاً على الآخر أن يكون أكثر جدية منه، لكن بلا جدوى.
روائي جزائري
“القدس العربي”