في سابقة، لم تخطر على بال، بحكم الوضع السياسي المعقد، الذي نشهده في الفترة الأخيرة، أجّل الوزير الأول انشغالاته، تخلى عن قضايا الساعة، وحل في البرلمان للحديث عن راهن الكتاب والمقروئية. لم يعجبه ما بلغه من إحصائيات تفيد بأن الأطفال والشباب بين 10 و19 سنة قد تراجع معدل مطالعتهم بنسبة 30%، وبدا مستاءً وهو يقول: «لا أريد أن يعوض تيك توك الكتاب. أو ينوب المؤثرون على السوشيال عن الكتاب».
أعلن الوزير الأول حرباً على شاشات الموبايل، متوعداً بإزاحتها، قدر الإمكان، عن اهتمامات الشباب، كي يعودوا إلى مطالعة الكتب. لم يقتصر الأمر على الوزير الأول، بل إن رئيس البلاد نفسه امتعض مما سمعه، معبراً عن خيبةٍ إزاء تراجع المطالعة، ومعلناً عن حملة واسعة من أجل إزاحة الموبايلات، على أمل أن يستعيد الكتاب مكانته في اهتمامات الشباب. الرئيس عبّر عن قلقه إزاء هذا الوضع. وكلف وزارة الثقافة أن تعد خطة في هذا السياق، من شأنها إعادة الكتاب إلى مكانته الأصلية، كما كان.
هكذا إذن تراجعت كل قضايا الساعة، من غزة إلى كييف، ولم تعد سوق الغاز والبترول وطفراتها مهمة إزاء موضوع المطالعة. لم يعد أحد مهتماً بنتائج فرق كرة القدم، ولا بأسماء نجوم الغناء والسينما، لم يعد قادة البلاد مشغولين بمسائل البطالة، أو الديون، ولم يعد يشغلهم تنشيط الاقتصاد، أو النظر في مسألة الهجرة، بل صار الكتاب وحده في مركز اهتماماتهم. والسبب هو ما وصل إليه استطلاع حديث، يفيد بأن الأطفال والشباب بين عمري 10 و19 سنة، تراجع اهتمامهم بالقراءة في أوقات فراغهم. يخبرنا الاستطلاع أن هذه الفئة العمرية يقرؤون، لكنهم يقرؤون ضمن ما هو مقرر في مناهج الدراسة، وليس خارجها. هذه الفئة العمرية يقرؤون، خارج المناهج، وإنما المشكلة أن 30 في المئة منهم ـ فقط ـ تراجعوا عن مطالعة كتاب. بينما 70 في المئة لا يزالون متمسكين بكتاب في أوقات الفراغ. بسبب 30 في المئة منهم إذن أعلنت الحكومة حالة طوارئ، وخرج الوزير الأول إلى البرلمان معبراً عن قلقه إزاء الموضوع، وكذلك فعل رئيس البلاد، الذي وعد بأن تعود النسبة إلى 100 في المئة، أن يعود الشباب إلى الكتاب، مثلما كانوا عليه قبل ظهور الموبايل والسوشيال ميديا.
من النادر أن يحصل ما حصل، أن تستنفر حكومة بأكملها قواها وإمكانياتها من أجل خدمة الكتاب. هل حصل ذلك في الماضي؟ أظنها المرة الأولى أن تتحول فيها المطالعة إلى قضية رأي عام، يتدخل فيها رئيس البلد نفسه. فهذا الاستطلاع، الذي أدخل الجميع في هرج ومرج، أجري على عينة مشكلة من 1500 شخص، وتبين أن الفتيات يطالعن أكثر من الفتيان. وهذه أيضاً نقطة أخرى يود رئيس البلد إصلاحها.
يتبين من الاستطلاع أن الشباب يخصصون 19 دقيقة من وقتهم في مطالعة كتاب، كل يوم، وهو رقم يقل أربع دقائق عما كان عليه الحال في 2022. انخفاض المقروئية 4 دقائق ـ فقط ـ كان كفيلاً بإيقاد حرب على مواقع السوشيال ميديا، 4 دقائق كانت سبباً في عقد جلسة في البرلمان، وفي أن يخرج الرئيس نفسه إلى العلن، ويبدي رأيه في الأمر، متوعداً باستعادة الدقائق الأربع التي ضاعت من حصة القراءة عند الشباب. من المحتمل أن الوقت الذي يقضيه شباب مع موبايل إنما يخصصونه في مطالعة كتاب رقمي. لكن هذا الاحتمال لم يقنع الرئيس ولا الوزير الأول. إنهما يصران على أن مصدر المعرفة والمتعة هو كتاب ورقي. بالتالي فإنهم يريدون أن يعود الشباب إلى حمل كتاب، بدل شاشة موبايل. من المقدر كذلك أن من لا يقرأ من هؤلاء الشبان فهو يقضي وقته في مشاهدة فيلم أو مسرحية، لكن هذا العذر كذلك بدا غير مقنع في أعين القائمين على البلد، يريدون العودة إلى الكتاب، يرجحون أن تنشئة اليافعين تكون بالكتاب وليس بوسيلة أخرى، بالأدب وليس بالموبايل.
يفيد الاستطلاع أن شاباً واحداً من بين كل خمسة شباب، لا يطالع كتاباً في أوقات الفراغ. 1 من 5 فقط. ولا يطالع كتاباً خارج المنهاج، بينما في المدرسة فإنه يطالع الكتب. من أجل 1/5 هذا التقدير البسيط أعلن حالة طوارئ، وظهر رئيس البلد منزعجاً أمام الكاميرات. إذا واصلنا مطالعة الاستطلاع سنكتشف أن هؤلاء الشباب يقضون مع الموبايل 3 ساعات فقط. إذن طوال 24 ساعة، لا يمثل الموبايل سوى 12.5 في المئة من وقتهم. يبدو وقتاً ضئيلاً، لكنه ينذر بخطر في نظر أعلى هرم السلطة. يريدون تقليصه إلى النصف، كي يصرف الشاب وقته مع الكتاب وليس الموبايل. 32 في المئة من الشباب الذين جرت مساءلتهم، يقولون إنهم يقرؤون كل يوم. المطالعة عادة يومية، بينما البقية يقرؤون مرة كل يومين أو ثلاثة أيام، ما يبين أن المطالعة فعل معتاد في حياتهم اليومية، والمشكلة في تراجعها، الذي قد يراه البعض طفيفاً، لكنه كان سبباً في إشغال بال حكومة بأكملها. وبخصوص ما يقرؤونه، فإن هؤلاء الشباب يفضلون ـ في المرتبة الأولى ـ مطالعة المانغا، أو الكتب المصورة، ثم الروايات.
كان بودي أن يكون هذا المقال عن الجزائر، أو عن بلد عربي آخر، يعلي من شأن المطالعة، ويجعل منها قضية رأي عام، كنت أتمنى أن يحصل ما حدث أعلاه في منطقة عربية، لكنه حصل فعلاً في فرنسا، وذلك ليس غريباً، أما نحن في الجزائر وما جاورنا، متى كان الكتاب مهماً إلى هذه الدرجة؟ متى نجري استطلاعات رأي عمن يقرأ ومن لا يقرأ؟ بل إننا لا نزال نعيش في الماضي ونمنع كتاباً أو نمنع كتاباً من الكلام أو السفر، فما بالك أن نهتم بمن يقرأ لهم. ما سبق قوله كان حلماً أن يحصل في بلد عربي وليس في فرنسا، ومن حقنا أن نحلم!
كاتب جزائري
- القدس العربي


























