في تصريحات لافتة، طرح وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو، مسألة “الحكومة السورية” على طاولة النقاش الدولي، مشيراً إلى نبرةً انتقالية: “نريد أن نعطي الحكومة السورية فرصة للنجاح، حتى لا يكون البديل الحرب الأهلية”، وفق تعبيره.
وأبرز ما في التصريحات هو تركيزها على مفاهيم مثل: التمثيل الوطني الكامل، شعور المواطنين بالأمان، ورفض استخدام الأراضي السورية كمنصة لاستهداف الجيران؛ أي إنها تُقدّم رؤيةً لسوريا جديدة، لا تُبنى على إرث النظام السابق؛ بل على توافق داخلي خارجي متوازن.
وقال روبيو في تصريحات له، عقب زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، قبل أيام، إلى واشنطن: “نريد أن نعطي الحكومة السورية فرصة للنجاح حتى لا يكون البديل الحرب الأهلية، والحكومة السورية سيُمثّل فيها كل عنصر من عناصر المجتمع السوري، وما يريده السوريون إنشاء حكومة وطنية تمثل كل عناصر المجتمع السوري ويشعرون فيها بالأمان، لا يريد السوريون أن تكون بلادهم منصة لإطلاق الهجمات ضد جيرانهم ، نريد أن نعطي الحكومة السورية فرصة للنجاح حتى لا يكون البديل الحرب الأهلية”.
تعديل أم تغيير جذري؟
سؤالٌ مشروع يطرحه المشهد: هل نحن أمام تعديل حكومي داخل إطار القائم حاليًاً، أم أن الحديث يدور حول تشكيل حكومة جديدة برؤية أميركية؟
التصريح لا يُحدّد آلية التغيير، لكنه يُلمّح إلى أن واشنطن لا تراهن على استمرار الوضع الراهن كما هو، فالعبارة نريد أن نعطي الحكومة السورية فرصة” توحي بأن هناك حكومةً قائمة أو قيد التشكيل تراها واشنطن جديرةً بالاختبار، شرط أن تحقق مُعطيات محددة: التمثيل، الأمن، والحياد الإقليمي.
ووفق مراقبين، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن واشنطن ستُفرِز رئيس وزراء أو تُحدّد أسماء، لكنها تُرسّخ معاييرَ سياسية وعملية يجب أن تتوافر في أيّة حكومة تطمح للاعتراف بها أو دعمها.
تمثيل كل عناصر المجتمع
تأكيد روبيو على أن “الحكومة الجديدة سيُمثّل فيها كل عنصر من عناصر المجتمع السوري” يبدو جذّاباً على الورق، لكنه يفتح ملفات عدة: من يُصنّف عناصر المجتمع؟ هل المقصود الطوائف؟ المناطق؟ التشكيلات السياسية؟
الواقع أن واشنطن لا تملك وحدها مفتاح الإجابة، لكنها تضع مبدأً توجيهيّاً: أي حكومة تُستبعد فئة بعينها: سواء من الأقليات أو من مختلف المكونات، ستُواجه بتشكيك في شرعيتها، داخليًّا وخارجيّاً.
اللافت هنا أن هذا الخطاب لا يشبه لغة التدخل القسري؛ بل يُشبه الشرطية الداعمة: نحن لسنا ضدكم، لكن شرطنا أن تبنوا حوكمة لا تُهمّش أحداً، وفق محللين.
إعادة ضبط شكل الحكومة ووظيفتها
وفي هذا الجانب، قال الباحث في مركز الحوار السوري، مجيب خطاب في حديثه لـِ “المدن”: “التصريحات الأميركية، وعلى رأسها كلام وزير الخارجية ماركو روبيو، لا تشير حتى الآن إلى رغبة في هندسة (تغيير كامل) للحكومة السورية، بقدر ما تشير إلى الدفع نحو إعادة ضبط شكل الحكومة ووظيفتها بما يسمح بقدر من التمثيل السياسي من دون المساس بالهياكل الأساسية للسلطة”.
وتابع: “ما يطرح عملياً هو صيغة (تعديل موسّع) أكثر منه (تغيير جذري)، بحيث تحافظ واشنطن على ما تعتبره استقراراً أمنياً يمنع الانزلاق إلى حرب أهلية، وفق تعبير الوزير، وفي المحصلة: لسنا أمام حكومة جديدة بالكامل؛ بل أمام (تطعيم حكومي) محسوب يضمن مصالح واشنطن ويقدّم للغرب صورة تقدّمية عن النظام”.
وفي رد على سؤال: هل ستكون الحكومة السورية المراد تشكيلها بطلب أمريكي تمثل كافة الأطياف السورية؟ أجاب: “واشنطن تتحدث عن (تمثيل) لكنها لا تتحدّث عن (شراكة فعلية)، فالتمثيل هنا يفهم في إطار توسيع دائرة الواجهة، وليس في إطار إعادة توزيع السلطة أو القرار، ويمكن أن تمنح بعض الأطياف رمزية سياسية ضمن الحكومة، من شخصيات محسوبة على المجتمع المدني، أو مكوّنات محلية، لكن دون أن يلامس ذلك البنية الصلبة للحكومة”.
واعتبر أن هذه التصريحات تعكس أن واشنطن باتت تنظر إلى سوريا كملف استقرار أكثر منه ملف تغيير، مشيراً إلى أن الرؤية الأميركية اليوم تقوم على 3 مرتكزات: منع الانهيار الأمني الذي قد يعيد إنتاج سيناريو 2012–2015، وإدارة النفوذ الدولي داخل سوريا، لا سيّما النفوذ الروسي والإيراني، من دون الدخول في مواجهة مباشرة، وإبقاء سوريا خارج معادلة التهديد الإقليمي (إسرائيل، الأردن، العراق).
ومن هنا، تفهم تصريحات روبيو على أنها محاولة لتسويق “براغماتية سياسية” تقول: دعوا الحكومة تتماسك، مع بعض التعديلات، كي لا تفتح البلاد على صراع أعمق، وفق خطاب.
كيف نقرأ الرؤية الأميركية اليوم؟
وحول ذلك، قال الأكاديمي والباحث السياسي، الدكتور عبد الرحمن الحاج، في حديثه لـِ “المدن” إن “تصريح ماركو روبيو مثير للاهتمام لأنه يبدو كأنه اتفاق أميركي في حين أنه يعكس رؤية الرئيس أحمد الشرع، ويشكل أحد المسائل الجوهرية في القرار الأممي السابق 2245، ولأن الحكومة الحالية نشأت في ظل وضع غير مستقر في محافظات الحسكة والدير والرقة حيث تسيطر قسد فإن تشكيل الحكومة عكس هذا الوضع، وبالتأكيد هناك تغييرات ستحصل في الحكومة إن حصلت تسوية مع ميليشيا قسد؛ أي باختصار فإن تصريح روبيو يتحدث عن وضع مستقبلي سمعه من الرئيس الشرع وليس طلباً أميركياً”.
وتابع: “الولايات المتحدة مهتمة بالاستقرار في سوريا، وتثبت هذا الاستقرار وتحويل سوريا كحليف جديد في المعسكر الغربي، وهذه المقاربة تنسجم مع مقاربة الدول الإقليمية ومع المصالح السورية كما يراها معظم السوريين”.
وختم بالقول: “انتهى محور المقاومة الذي عانى منه السوريون وانتهى معه عهد طويل من البحث عن علاقات مع أنظمة شريرة ودكتاتورية تمثل المعسكر الشرقي البائس، لا يريد السوريون العودة إلى هذه العلاقات الدولية مع أنظمة ميتة، السوريون يتطلعون إلى المستقبل، ولذلك يجدون في التحالف الغربي فرصة للعودة إلى العالم الطبيعي وإطلاق عجلة التنمية”.
ما المشترك بين واشنطن ودمشق اليوم؟
من وجهة نظر تحليلية، يمكن القول إن واشنطن تتخوف من أن تتحوّل سوريا مجدداً إلى ساحة صراع إقليمي-دولي، أو ملاذاً لأطراف تهدّد حلفاءها.
وفي هذا الصدد، قالت الدكتورة عزة عبد الحق، من التحالف السوري الأميركي للسلام والازدهار، في حديثها لـِ “المدن”: “بعد النجاح الكبير الذي أحرزته الحكومة السورية في واشنطن على المستوى الدولي، ولأجل استمرار هذا النجاح، لابد للحكومة السورية من الاستمرار في العمل على المستوى الداخلي السوري أيضاً”.
وأضافت أن “رغبة الولايات المتحدة الأميركية، والتي عبر عنها الرئيس (دونالد) ترامب، هي بإنشاء شرق أوسطي جديد يعزز مصالح أميركا في المنطقة، وتكون فيه سوريا مستقرة آمنة وحليفاً قوياً ومركزاً للتجارة والاقتصاد، إلى جانب الاستمرار بحماية مصالح حلفائها في المنطقة والمساعدة في القضاء على الإرهاب”.
كما أن رغبة الولايات المتحدة هذه تتوافق كثيراً مع رغبة الشعب في الداخل والخارج أيضاً، وتتماشى مع تطلعاته التي لأجلها قد قامت ثورة الشعب السوري العظيم، ولأجلها قدّمت التضحيات الجسيمة، فبعد سنين من الثورة وصبر أبنائها ونضالهم ضد النظام البائد الذي فرق أبناء البلد الواحد على أساس الهوية والانتماء والدين والطائفة، وزرع الخوف في النفوس وفي كل بيت، وكبت الحرّيات، فقد آن الأوان اليوم بعد نجاح الثورة أن نعلن جميعاً انتماءنا للوطن الواحد، وأن نحيّد الاختلافات ونضعها جانباً لأجل غاية عظمى، وفق عبد الحق.
ورأت الدكتورة عبد الحق، أن استقرار سوريا ووحدة أراضيها والسعي لإنشاء نظام ديمقراطي بالاستعانة بالتجارب الدولية مع مراعاة الخصوصية السورية، بحيث يكفل تمثيل كل أبنائها في الحكومة مع اختلاف توجهاتهم الدينية والطائفية والسياسية، وضمان أمن البلاد وعدم تهديدها لأحد وعدم تهديدها من أحد، هو رغبة شعبية ملحة ومحقّة وضرورية ولابديل أو تنازل عنها، فما تريده أميركا لسوريا بالنهاية (لتحقيق مصالحها المختلفة في الشرق الأوسط) هو نفسه ما أراده ويريده الشعب السوري لسوريا ويتطلع إلى تحقيقه، وهو نفسه الأمر الذي ثار لأجله.
ولفتت إلى أن “تصريح روبيو يعكس أهمية استقرار سوريا لأميركا، وهو عندما يقول إن الشعب السوري يريد الاستقرار وأن يكون جميعه ممثلاً بالحكومة، ما هو إلا انعكاس لرغبة أميركا في حماية مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة بتحقيق سوريا مستقرة وموحّدة للجميع، وقد صادف أن تقاطعت هذه المصالح مع مصالح الشعب السوري أيضاً، فسوريا مستقرة يعني عالماً مستقراً وآمناً، وسوريا مضطربة يسودها الفقر والجريمة والتقاتل الطائفي والديني سوف يجلب الخراب والدمار والإرهاب للمنطقة كلها والعالم”.
لا تأكيدات على تعديل حكومي قادم
وعلى الرغم من أنه لا تأكيدات بعد على تعديل حكومي قادم، ولكن يرى الكثير من المحللين السياسيين أن حكومة الرئيس أحمد الشرع أبدت نيتها في إشراك الجميع.
فعندما تشكلت الحكومة السورية في آذار/ مارس الماضي، انصبّت الجهود بالرغم من محدوديتها وتعقيد المرحلة الانتقالية وصعوباتها آنذاك على تنوعها وإشراك المرأة وإشراك الجميع.
وذكرت الدكتورة عبد الحق، أن “العيون الطامحة تتطلّع دوماً إلى وجود مشاركة أكبر للمرأة ومشاركة لجميع فئات المجتمع بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الطائفية أو العرقية، كما تتطلع لوجود نظام ديمقراطي واسع وشامل يشارك الجميع فيه بالحكم واتخاذ القرارات”.
وكما قال المبعوث الأميركي للشرق الأوسط توم باراك: “سوريا بتنوع أبنائها تشكل فسيفساء من شعوب وأديان مختلفة تعيش معاً على أرض واحدة، يعانون العواصف نفسها ويسعون إلى السلام نفسه، وفي التفاعل الدقيق بينها يكمن التحدّي والوعد بتجديد المنطقة”.
وأشارت الدكتورة عبد الحق إلى أن “النظام البائد أعاد سوريا إلى حقبة ما قبل التاريخ، ونحن نريد لسوريا اليوم أن تنهض أولاً ثم تمشي ثم تجري لتواكب العالم والحضارات وتستفيد من أنجح التجارب الديمقراطية ثم تبني ما يناسبها”.
واشنطن ومبدأ “مقاربة الضرورة”
يجمع الطرفين اليوم ما يمكن تسميته بمقاربة الضرورة، وفق مراقبين؛ إذ إن الولايات المتحدة تريد استقراراً إقليمياً يمنع تمدّد الفوضى ويضبط حركة إيران، والحكومة السورية تريد شرعية دولية، وتخفيفاً تدريجياً للعزلة الاقتصادية والسياسية، وبالرغم من التناقض البنيوي بين الطرفين، إلا أن كليهما يلتقيان عند نقطة واحدة: الحفاظ على الوضع القائم مع تحسين شروطه، لا قلبه رأساً على عقب.
كما أن سوريا وأميركا اليوم يجتمعان على كره الإرهاب وحب الاستقرار ونشر السلام، ومصالح مشتركة متبادلة استراتيجية اقتصادية وسياسية، إضافة إلى أنهما يتشابهان باختلاف مكوناتها وشعوبها وألوانها وأديانها، وهم متساوون أمام القانون ويعيشون جميعاً تحت سقف الوطن الواحد، والذكاء يكمن في نقل بعض التجارب (الجيد منها) الديمقراطية وضمان الحريات والتعددية السياسية ومحاولة تطبيقها مع الحفاظ على خصوصية الوضع في سوريا، وفق المحللين.
- المدن


























