تجد سوريا ما بعد سقوط نظام بشار الأسد نفسها أمام أحد أعقد التحديات في تاريخ العدالة الانتقالية المعاصر، وهو الكشف عن مصير عشرات آلاف المفقودين، في وقت تتبدى فيه أرقام وجغرافيا المقابر الجماعية على نطاق يفوق قدرات الدولة والسلطات الجديدة، علمياً وأمنياً وإدارياً.
وبحسب ما ورد في تحقيق نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال”، تواجه البلاد إرثاً قاسياً يتمثل في عشرات الآلاف من جثث المعتقلين والضحايا المدفونة في حقول، وجبال، وآبار، ومحيط الحواجز العسكرية، ومقابر سرية وثقت منها المنظمات الدولية حتى الآن 134 مقبرة جماعية، في حين يُرجح أن العدد الحقيقي أكبر بكثير.
هذه المهمة، التي تتطلب جيشاً من خبراء الطب الشرعي، ومنشآت حديثة للحمض النووي، ومعدات وموازنات قد تصل إلى 200 مليون دولار وفق تقديرات رئيس “اللجنة الوطنية للمفقودين” في الحكومة السورية، محمد رضا جالخي، تُهدد إن عولجت ببطء أو ارتباك بنسف فرص الاستقرار الهش وعودة البلاد إلى دوائر التوتر، كما تحذر مصادر “وول ستريت جورنال”.
بلد مغمور بالمقابر
وتشير الصحيفة إلى أن الأشهر التي تلت سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، شهدت تدفّقاً غير مسبوق من البلاغات عن مواقع دفن سرية. فبعضها كان “سراً معروفاً” لدى السكان، وبعضها الآخر ظهر بالمصادفة خلال استعادة الأراضي الزراعية أو أثناء إزالة الركام. وتصف “وول ستريت جورنال”، المشهد بوضوح: “لم يعد التحدي هو العثور على المقابر، بل معرفة هويات من بداخلها.”
وفي بلدة إزرع جنوب سوريا، بدأت فصول هذا الملف تُفتح عندما تلقى الطبيب الشرعي د. ممدوح الزعبي، ــــ أحد قلة من اختصاصيي الطب الشرعي المتبقين في الجنوب ــــ نداءً عاجلاً بعد أن اكتشف مالكو مزرعة جديدة جثثاً مدفونة قرب حاجز عسكري سابق.
وكشف التحقيق أن 31 جثة استُخرجت مع حلول المساء، بعضها بملابس عسكرية، وبعضها بملابس مدنية متحللة دُفنت على طبقات ممتدة على مدى سنوات. ويقول د. الزعبي للصحيفة: “وجدنا بالضبط ما توقعناه. بصراحة كنت أتوقع أن نجد جثثاً أكثر. كل من فُقد قبل التحرير… موجود تحت الأرض في مكان ما”.
وقام الزعبي، الذي قُتل شقيقه في أحد الفروع الأمنية، بتصوير وتقييد كل قطعة ثياب، وكل حزام، وكل سن، قبل إعادة دفن الجثث في “مقبرة الشهداء” بعد أسبوعين في حال لم يتعرف عليها أحد.
ووفق “وول ستريت جورنال”، يتردد في المستشفيات والمقابر وعلى أبواب المختبرات سؤال واحد: ” أين هو؟”، ومن الشهادات التي نقلتها الصحيفة شهادة شريفة حسبار، التي اختفى زوجها عام 2018، تقول: “فقط أريد أن أعرف… هل مات تحت التعذيب؟ أين الجثة؟”، ويروي برهان نصري، الذي اختفى ابنه بعد مشاركته في احتجاجات 2011، “كان للنظام سياسة واضحة: يأخذون شاباً من كل عائلة”، فيما تشير سميرة عبداللطيف، التي تأكدت وفاة زوجها دون أن تتسلم جثمانه، إلى أنها لم تُخبر قط بتاريخ أو سبب الوفاة، وتقول رجاء حمصي، التي تبحث منذ أكثر من عقد عن ولديها المعتقلين، “كانوا يخبرونني كل مرة أنه نُقل إلى فرع آخر… لا أعرف من أصدق”.
جيش من الضحايا
ويوثق تحقيق “وول ستريت جورنال”، إرث النظام الذي حكم نصف قرن بقبضة أمنية، عبر معتقلين ماتوا تحت التعذيب داخل الفروع الأمنية، وإعدامات جماعية في سجن صيدنايا، حيث كانت تُنفذ عمليات شنق جماعية لعشرات وربما مئات المعتقلين دفعة واحدة، وشاحنات ليلية تنقل الجثث إلى مقبرة نجها قرب مطار دمشق، غالباً دون أكياس، وعليها أرقام الفروع مكتوبة على الصدر والجبهة.
كما تكشف عن تقليد إداري داخل النظام يصف المقابر السرية بـ”الأماكن المعروفة”، وهي عبارة تُستخدم لتجنب الاعتراف بسبب الوفاة الحقيقي، وشهادات عمّال دفن وسائقين عن روائح لا تُحتمل ودفن جماعي سريع.
عظام تُغسل، وذكريات تُستعاد
ويعمل الدكتور أنس حوراني مع زميليه عامر السراقبي وأحمد نعيم في المركز السوري للتعرّف على الهويات، في العاصمة دمشق، حيث يجري: غسل العظام المنتشلة من المقابر والآبار، وإعادة تركيب الهياكل العظمية المجهولة، وحفظ قطع الملابس والحقائب والأحزمة في أدراج مفهرسة، وسحب عينات الحمض النووي من كل جثة، ومطابقة الأسنان مع السجلات الطبية القديمة.
المفارقة أن هؤلاء الأطباء، كما ينقل التحقيق، حُرموا لسنوات من العمل على جثث الحرب بعدما كتب أحدهم تقريراً يكشف سبب وفاة متظاهر. يقول حوراني: “كانوا يخفون المجازر عنا. ثلاث سنوات بلا عمل… فقط قهوة وسجائر.”
وحتى اللحظة، تقول”وول ستريت جورنال”، إن السلطات جمدت عمليات فتح المقابر الكبرى إلى حين تجهيز خطة وطنية دقيقة، خشية إتلاف الأدلة عبر النبش العشوائي.
واكتشف مزارع في قرية معان قرب طريق M5، عدداً من الجثث بعدما لاحظ شعراً يطفو في بئر داخل أرضه. وسارعت الشرطة المدنية إلى استخراج سبع جثث، أُرسلت فوراً إلى دمشق، ويكشف التحقيق عن ثلاث حالات مشابهة في المنطقة نفسها.
ويوضح قائد شرطة المنطقة “أبو حسين”، “وجدنا جثثاً كثيرة داخل آبار. الشهود قالوا إن جنود النظام هم من رموها. وعائلات كثيرة تعتقد أن أبناءها كانوا في صيدنايا… وربما هم هنا”.
أما المزارع مثنّى المطيري، فيقف قرب أحد الآبار قائلاً: “كنت أعتقد أن أخي في صيدنايا… لكن ربما هو هنا. لم يدفنوهم في الأرض كي لا يكتشفهم أحد”.
ويخلص تحقيق “وول ستريت جورنال”، إلى أن البلاد أمام مهمة معقدة، طويلة، ومكلفة، وأن التعامل المرتبك أو المتسرع قد يشعل شرارات التوتر مجدداً. فسوريا التي تحاول طي صفحة الحرب، تجد نفسها مضطرة أولاً لفتح المقابر.
- المدن






















