عندما صرح حافظ الأسد (انه لن يضع يده في يد عرفات، الملوثة بمصافحة الأمريكيين والإسرائيليين) علق القذافي بسخرية : من يضع يده في يد ايلي حبيقة لن يضيره أن يضع يده في يد عرفات!. بعدها عاد الأسد الأب وصافح وعانق عرفات، ثم قاطعه مرة أخرى، وعاداه، إلى أن وصل الأمر إلى الشتائم المخجلة التي بثتها وسائل الإعلام، والتي لم يكن أن تصدر إلا من نموذج مثل مصطفى طلاس( وزير الدفاع المزمن كما كان يلقب)، الذي شاءت له الأقدار أن ينوب عن سيده في مصافحة ثانية بل ومعانقة عرفات القادم لواجب العزاء!.
باستثناء علاقته بإيران الخمينية ربما كانت حالة عرفات من الحالات النادرة التي اتخذ الأسد الأب فيها توجهاً رافقه إلى القبر!.
الأمر هنا ليس عرفات أو غيره، إنما في براغماتية ما يسميه أهل النظام “القائد الخالد” وبهلوانياته، وما أرساه من قواعد وآليات تشكل بنية النظام الأساسية، لاستمرار القبض على السلطة، مهما كان الثمن، وعلى حساب أيّ قضية. والاكتفاء غالباً بتغيير نص الخطاب الإعلامي أو حتى الاكتفاء بقلب الصفحة رأساً على عقب، وإن رُفعت الحواجب استغراباً، تكون المشكلة في عقول أصحاب الحواجب وقدرتهم على الفهم!. فكل الأمور مباحة في الحفاظ على صولجان السلطة.
العدو يمكن أن يصبح حليفاً دون مقدمات، والعكس صحيح، ويمكن أن يكون طرفان من نفس اللون أو نفس النكهة، في موقعين متقابلين مع النظام، فالحليف يمكن أن يكون إسلامياً وبشكل ما (إخوانياً) مثل حزب العدالة والتنمية التركي أو حركة حماس، والعدو ” حتى العظم ” يمكن أن يكون إسلاميا من نفس الصنف وتحديداً الإخوان المسلمين السوريين! . والحليف الاستراتيجي يمكن أن يكون الإتحاد السوفيتي، والعدو في نفس الوقت يمكن أن يكون القوى اليسارية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية فيسحقون، أو البعض من الشيوعيين السوريين فيزجون في المعتقلات. ويمكن التحالف مع التحالف الأمريكي- الغربي في حربه الأولى على العراق، أو حتى التعاون الأمني من النموذج (المخزي) مع المخابرات المركزية الأمريكية، مع الاحتفاظ بالعداء للإمبريالية !! . الطريف في بهلوانية النظام حين يذهب إلى أقصى حالات تجلياته، في تحويل العدو من مقاتل ضده إلى مقاتل تحت إمرته، كما في حالة ايلي حبيقة إياه.. لكن الأطرف أن كل ما سبق بكل تناقضاته سيسمى إنجازاً تاريخياً، ويصفق له طويلاً.. ووقوفاً!.
المعضلة في بنية النظام السوري التي أسس لها وأرساها الأسد الأب، هي هذه البهلوانية في (تثبيت المتحولات وتحويل الثوابت)، لتجد القضايا الكبرى والمصيرية بالنسبة للشعب السوري، والشعوب العربية، نفسها، وببساطة تتحول إلى رصيد في حساب جارٍ يستخدمه النظام في الإنفاق على أسباب بقائه.
فإن كان ناموس العصر لم يعد يقبل نموذج النظام الشمولي عموماً، ناهيكم عن ذاك المتمركز حول فرد أو عائلة بعينها، نجده يصر على استمرار إنتاج عبادة الفرد باعتباره المدماك الوحيد الذي لا غنى عنه في مقدسات النظام، فيفقد أهل النظام اتزانهم بطريقة تثير الدهشة لمجرد استبدال اسم بشار بالحرية في الهتاف الأثير لانتفاضة شعب سورية (الله.. سورية.. حرية.. وبس) وكأن بشار أسمى وأكثر رفعة من الحرية! كما عبر الأستاذ الصديق صبحي حديدي في أحدى مقالاته. يتساءل السوريون وباقي من يرى ويسمع، حسناً.. حافظ الأسد (هُبل) كما يسمي تماثيله المنتشرة في كل مدينة وقرية غالبية السوريين، هو رجل الدولة القوي ومؤسس الدولة الأسدية، وبشار الوريث وامتداد النهج وممثل الديمومة، ولكن لماذا تنتشر صور (الشهيد) باسل الأسد في كل مكان؟.
في قصة أخرى عام 2005 يهاجم شبيحة الساعاتي (رئيس اتحاد الطلبة، وصديق ماهر الأسد الوفي) ويعتدون بالضرب و الإهانة على مجموعة من المثقفين والناشطين السوريين، أمام القصر العدلي بدمشق حيث كانوا في اعتصام سلمي ذو رمزية لا تخفى، يطالبون بإطلاق الحريات العامة وإطلاق المعتقلين السياسيين، لقد كان ملفتاً في تلك الحادثة أن يستهدف الشبيحة الساعاتيون أول ما يستهدفون الأعلام الوطنية التي كانت مرفوعة بأيدي المعتصمين، فيرمونها من أيديهم أرضاً ويرفعون مكانها صور بشار الأسد، باعتباره رمز البلاد الوحيد. وتعبير مجسد للنسخة السورية من عبادة الفرد، وأهم مقتضيات إنتاج الاستبداد.
هكذا يخوض أهل النظام معارك مصيرية ومن هذا النوع تحديداً، يقيموا الدبكات ويرقصون في الشوارع احتفالاً باستمرار وجود (القائد الثابت) ودعماً له، يسجدون على صوره، فهم بهذا يكيدون (الصهيونية والإمبريالية) بل وربما يظن البعض أنهم بهذا قطعوا نصف المسافة في الجولان، أو حتى فلسطين التي ستحرر بكاملها عندما يقومون بواجبهم الذي حدد لهم… فقط وحصراً..بترديد شعارات من قبيل (بالروح بالدم….).
الآن وكما يظهر في المسيرات (التأييدية المضادة) هذه الأيام، نرى نموذجاً جديداً لدى مناصري النظام، في ترميز السيادة والوطن، فيظهر العلم الوطني السوري، تفصل بين نجمتيه صورة بشار الأسد!. في (اقتراح جديد) ربما اعتبروه تسوية أو تنازل لرمزية الفرد المشكل لأقدس ثوابت النظام أمام الثورة السورية!.
هذه هي ثوابت النظام ورموزها، في حين يمكن أن تكون المتحولات وبكل بساطة من نوع الشعارات الكبرى للقضايا المصيرية الكبرى، مثل شعار تحرير الأرض والإنسان، الذي يخفف منهجياً إلى الصمود والتصدي. ثم إلى صنع السلام العادل والشامل… والدائم، ثم يحل محله شعار الممانعة، ثم شرف التفاوض بطريقة غير مباشرة (على طريقة المتمنعة في التوصيف الشرعي!)، الملفت في هذه المتحولات هو تخفيف (جرعة) المقاربة لذات القضايا المصيرية، وتحويلها من الحالة الصلبة إلى اللينة إلى المائعة إلى السائلة إلى البخاخ!. وفي كل مرحلة تضرب الأيدي على الطاولة، باعتبار شعار كل مرحلة هو الشرف بعينه، بل أقصى الشرف! وبهذا يمكن الاستمرار في رقصة الشرف!.




















