عندما سأل صحافيون جزائريون الرئيس عبد المجيد تبون الشهر قبل الماضي عن القمة العربية المرتقبة في الجزائر في آذار (مارس) المقبل واحتمال مشاركة سوريا فيها، قال بلا تردد: من المفترض أن تشارك، لأن القمة فرصة جامعة والجزائر ليست دولة تفرقة.
في اللغة الرئاسية والدبلوماسية، عبارات «من المفترض» و«قمة جامعة» و«لسنا دولة تفرقة» تعني أن الجزائر لا تمانع حضور سوريا القمة المنتظرة، وستعمل من أجل ذلك.
بوضع الرد في سياق أوسع، الجزائر لم تكن من البداية داعمة لعزل النظام السوري وتعليق عضويته في جامعة الدول العربية في 2011. ولاحقا لم تتخذ أيّ إجراء عقابي ضده من قبيل طرد السفير أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي.
على صعيد النخب الثقافية والإعلامية الجزائرية، كان التعاطف مع النظام السوري مثيرا للاستغراب بتناقضه اللافت. إذ أن المثقفين والإعلاميين ذاتهم الذين هللوا لسقوط نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، اعتبروا محاولة الشعب السوري تكرار التجربة التونسية والمصرية من أجل حياة حرة وكريمة، اعتبروها مؤامرة خارجية لتحطيم سوريا! وهكذا كانت الجزائر، شعبيا ورسميا، من أكثر البلدان العربية تعاطفا مع نظام بشار الأسد.
اجتماعيا واصلت الجزائر، ببعص الاستحياء، استقبال أعداد من اللاجئين السوريين الذين صعب عليهم شق طريقهم نحو أوروبا. وواصلت غض الطرف عن جهودهم للاسترزاق في المجتمع كلٌّ كيفما تيسَّر له.
نهاية عزلة النظام السوري عربيا ليست فقط أمنية الجزائر وحدها. هناك دول مثل سلطنة عمان والإمارات والأردن ومصر والبحرين، قطعت أشواطا في التطبيع مع النظام السوري. وهناك دول أخرى تعمل في صمت في الاتجاه ذاته وتترقب التطورات. سيكتمل مسعى التطبيع ويصبح أكثر بروزا وواقعية عندما تلتحق به السعودية. وهذه مسألة وقت أيضا. الرياض تفضل التأني الموثوق على الاندفاع المحفوف بالخطأ. النتيجة النهائية مضمونة في صالح الأسد ونظامه والسؤال هو «متى» وليس «هل».
على الأغلب ستكون 2022 هي سنة بداية عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، حتى وإن بطريقة محتشمة تبدأ صغيرة وهامشية لتأخذ مسارها الطبيعي في وقت لاحق.
هناك جهود تُبذل في هذا الاتجاه وتنسيق بين الدول التي أنهت مقاطعتها لنظام الأسد وأعادت فتح سفاراتها في دمشق. تقود مصر والأردن هذه الجهود، لكن عُمان والإمارات هما قوة الدفع المؤثرة. لم تكن هذه الدول لتمضي في مسعاها لولا موافقة أمريكية، أو عدم ممانعة على الأقل. واشنطن تغض الطرف لأنها منشغلة بقضايا أهم من سوريا، أبرزها الصين وروسيا. وتغض الطرف طمعا في أن حلفاءها العرب ينجحون في انتشال سوريا من أحضان إيران وروسيا. لكن الحسابات الأمريكية هذه غير دقيقة، لأن الطريقة التي اختارها العرب لإعادة تأهيل نظام الأسد تعطيه الانطباع بالانتصار والقوة، وتحفِّزه على فرض إملاءاته وشروطه التي منها الحفاظ على علاقات دافئة مع إيران لأنها كانت شريكا حاسما في تمكين الأسد من استعادة السيطرة على بلد أوشك أن يضيع منه في وقت ما.
يتردد في وسائل الإعلام الدولية أن بشار الأسد انتصر لكن سوريا خسرت. ويتردد أنه سيقود ما تبقَّى من شعبه على جبال من الأحزان والخراب الإنساني والمادي
غير أن التطبيع العربي يعيقه استمرار العقوبات الأمريكية التي تحظر التعامل مع نظام الأسد. لهذا من المرجح أن يبقى التطبيع رمزيا وسياسيا أكثر منه اقتصاديا، وهو أمر يُرضي الأسد والعرب الساعين إلى التقارب معه، إلى حين، في انتظار مزيد من الليونة الأمريكية. وهذه مسألة وشيكة عبَّر عنها جيمس جيفري مبعوث إدارة ترامب إلى سوريا بالقول إن إدارة بايدن أقل حماسا لمعاقبة الأسد بموجب قانون قيصر، وقوله أيضا إن الأردنيين واثقون من أن واشنطن لن تعاقبهم على تقاربهم مع نظام الأسد (رويترز).
كل الظروف باتت مواتية، ووسط هذا المزاج لن يكون من المستغرب رؤية سوريا تشارك في القمة العربية المقبلة التي ستُعقد في بلد تتحمس سلطاته لإنهاء عزلة نظام الأسد.
القراءة الأخرى لعودة سوريا المرتقبة، تكمن في كون مدّ الثورات المضادة هو المهيمن الآن. توافقَ خوف بعض القادة العرب من العدوى مع صمت المجتمع الدولي فتشكلت الوصفة المثالية لوأد أحلام الشعوب العربية في التغيير. المجتمعات التي أبهرت العالم بثوراتها السلمية، اقتيدت بعد سنوات قليلة إلى جحيم من القمع والطغيان أخطر من ذلك الذي ثارت عليه. أسوأ ما هنالك أن المجتمع الدولي ذاته الذي أبدى إعجابه بتلك الثورات السلمية، وقف متفرجا عليها، وأحيانا شريكا، وكل أنواع الانقلابات تقضي على أحلامها الواحد تلو الآخر.
صحيح أن مرحلة ما بعد الثورة لم ترق إلى مستوى طموحات الناس، وشهدت استحواذ تيارات الإسلام السياسي على المشهد، لكن طريقة العلاج التي لجأت إليها الثورات المضادة، كانت خاطئة وعنيفة، بل إجرامية في بعض الأحيان، وشكّلت نموذجا يتكرر الآن في السودان مثلا حيث يبدو قتل المتظاهرين السلميين أمرا طبيعيا ومقبولا. وسيتكرر في دول أخرى بلا أي رادع.
يتردد في وسائل الإعلام الدولية أن بشار الأسد انتصر لكن سوريا خسرت. ويتردد أنه سيقود ما تبقَّى من شعبه على جبال من الأحزان والخراب الإنساني والمادي. هذا الكلام ينطبق على «الحضن العربي» المزعوم الذي يشبه كثيرا سوريا التي سيقودها بشار الأسد. أين هذا «الحضن»؟ جامعة الدول العربية فقدت كل شيء، وأصبحت أسوأ من أن تُغري بالانتماء إليها. لم يبق منها إلا الاسم وتلك الاجتماعات الوزارية والقمم العرجاء التي تُعقد على عجل ووراء أبواب موصدة كأنها عار يخشاه أصحابه. هي الآن مجرد نادٍ صدئ بلا ماضٍ وبلا مستقبل.
كاتب صحافي جزائري
“القدس العربي”